كلما زرت سورية، فوجئت بمدى اختلاف الوضع على الأرض، مقارنة بما يُنقل للعالم الخارجي، ومن المؤكد أن التقارير التي تنقلها وسائل الإعلام الأجنبية عن الصراع السوري ليست دقيقة البتة، بل مضللة بقدر كل ما رأيناه منذ بداية الحرب العالمية الأولى، ولا يسعني التفكير في حرب أو أزمة أخرى غطيتها اعتُبرت فيها المصادر الدعائية، المتحيزة، وغير الدقيقة مصادر حقائق موضوعية من قبل الصحافيين.
نتيجة هذه التشويهات، لم يحظَ السياسيون أو الناس، الذين يقرؤون الصحف أو يشاهدون محطات التلفزيون المعتادة، بصورة واضحة عما حدث داخل سورية خلال السنتين الماضيتين. والأسوأ من ذلك أن الخطط الطويلة الأمد تستند إلى هذه المعلومات المغلوطة. يذكر تقرير نشرته مجموعة الأزمات الدولية (ومقرها في بروكسل) عن المسألة السورية الأسبوع الماضي أن "حلفاء المعارضة الخارجيين تحوّلوا، عندما باتوا واثقين من النصر السريع، إلى نموذج بعيد على نحو خطير عن الواقع".حلت الشعارات محل السياسات: فصُوّر الثوار على أنهم الأخيار وداعمي الحكومة الأشرار، فلو مُنحت المعارضة المزيد من الأسلحة لاستطاعت، حسبما يُفترض، تحقيق نصر حازم. وإن تعرض الرئيس السوري بشار الأسد لما يكفي من الضغط العسكري، فسيقبل بمفاوضات شرطها المسبق استسلامه في الصراع الدائر، ولكن من السلبيات الكثيرة للخطاب الذي يصوّر الأسد وأتباعه وكأنهم الشر بحد ذاته، والذي تتبناه بشدة المستشارة الأميركية الجديدة للأمن القومي سوزان رايس ووليام هيغ، أنه يستبعد المفاوضات الجدية والتوصل إلى التسوية مع المجموعة الحاكمة في دمشق، وبما أن الأسد يسيطر على معظم سورية، ابتكرت رايس وهيغ وصفة لحرب لامتناهية، مدّعيين في الوقت عينه القلق حيال الظروف الإنسانية التي يعانيها الشعب السوري. من الصعب تقديم البراهين على صحة تعميم ما أو خطئه في سورية، ولكن بالاستناد إلى تجاربي خلال تنقلي في الأسابيع القليلة الماضية في وسط سورية بين دمشق، وحمص، وساحل البحر الأبيض المتوسط، أدركت أن من الممكن إظهار كم تختلف التقارير الإعلامية عما يحدث حقّاً على الأرض، ولا يمكن تحقيق أي تقدم نحو وقف العنف إلا بفهم توازن القوى الحقيقي على الأرض والتعاطي معه بموضوعية.سافرت يوم الثلاثاء الماضي إلى تل كلخ، بلدة تضم نحو 55 ألف نسمة تقع شمالي الحدود اللبنانية وكانت سابقاً معقلاً للمعارضة، قبل ثلاثة أيام، سيطرت قوات الحكومة على البلدة وسلّم 39 قائداً من الجيش السوري الحر سلاحهم. وخلال حديثي مع قادة الجيش السوري، وأحد المنشقين عن الجيش السوري الحر، وعدد من السكان المحليين، تبين لي أن المنطقة لم تشهد انتقالاً مباشراً من حالة الحرب إلى حالة السلم، بل لعب عدد من المواطنين البارزين في تل كلخ دور الوسيط في سلسلة من الهدن واتفاقات إطلاق النار خلال السنة الماضية.ولكن خلال إقامتي في البلدة، كانت قناة "الجزيرة" العربية تنقل تقارير عن قتال دائر بين الجيش السوري والمعارضة، وأشارت إلى أن الدخان يتصاعد من تل كلخ، فيما كان الثوار يقاتلون دفاعاً عن هذا المعقل، ومن حسن الحظ أن هذه التقارير كانت مجرد وهم. فخلال الساعات القليلة التي أمضيتها في تلك البلدة، لم يحدث أي إطلاق للنار، ولم أرَ أي إشارات إلى وقوع قتال أو نار ودخان.لا شك أنه ما من طرف في الحرب يقر بخسارته موقعاً ما دون الادعاء أنه دافع عنه ببسالة ضد أعداد كبيرة من مقاتلي العدو، لكن التعتيم على ما حدث في تل كلخ في وسائل الإعلام شكّل نقطة مهمة: فوفاء المعارضة في سورية ليس راسخاً، فقررت الولايات المتحدة، وبريطانيا، والأعضاء الأحد عشر لما يُدعى "أصدقاء سورية"، الذين التقوا في الدوحة الأسبوع الماضي، تسليح الثوار المعارضين المعتدلين، ولكن ما من اختلاف كبير بينهم وبين مَن لا يرتبطون بتنظيم "القاعدة".على سبيل المثال، يتحدث أحد التقارير عن انشقاق أحد مقاتلي "جبهة النصرة" التابعة لـ"القاعدة" وانضمامه إلى مجموعة أكثر اعتدالاً لأنه لم يستطع الامتناع عن التدخين، لكن الأصوليين يدفعون مبالغ أكبر، ونظراً إلى العدد الكبير من العائلات السورية الفقيرة، سيتمكن الثوار من استمالة المزيد من المجندين.أخبرني أحد الدبلوماسيين في دمشق: "المال أكثر أهمية من العقيدة"،وعندما كنت في حمص، اكتشفتُ لِمَ تلقى عادةً نسخة الثوار من الأحداث قبولاً أكبر في وسائل الإعلام، مقارنةً بما تقدمه الحكومة السورية. قد تكون وسائل الإعلام هذه أحياناً متحيزة للثوار، ولكن لا تتوافر غالباً نسخة حكومية من الأحداث، ما يخلّف فراغاً يملؤه الثوار كما يشاؤون. على سبيل المثال، طلبتُ الذهاب إلى مستشفى عسكري في منطقة الوعر في حمص وسُمح لي بذلك، ولكن عندما وصلت، مُنعت من بالدخول، فالجنود الذين يُصابون خلال قتالهم الثوار يكونون داعمين بليغين ومقنعين للحكومة (زرت مستشفى عسكرياً في دمشق وتحدث إلى جنود مصابين هناك). لكن السرّية المفرطة التي تتبناها الحكومة تتيح للمعارضة دوماً نسج القصص الخيالية حين ترغب في تقديم طرح مقنع.عندما عدت إلى المناطق المسيحية في مدينة دمشق القديمة، حيث كنت أقيم، وقع انفجار قرب الفندق الذي أنزل فيه يوم الخميس الماضي، فقصدت موقعه، وما حدث بعد ذلك أكد لي أنه ما من بديل لتقارير شهود العيان غير المتحيزين، إذ كان التلفزيون الحكومي يدّعي أنه تفجير انتحاري موجه على الأرجح ضد الكنيسة الأرثوذكسية أو المستشفى الشيعي الأقرب، إذ لقي أربعة أشخاص حتفهم.لكنني رأيت حفرة صغيرة في الأسفلت بدت لي أقرب إلى موقع سقوط قذيفة هاون، ولم أرَ الكثير من الدماء قرب موقع الانفجار مباشرة إنما على بعد نحو ثلاثة أمتار، وعندما كنت أتفقد المكان سقطت قذيفة هاون أخرى على سطح منزل وقتلت امرأة.ذكر لاحقاً المرصد السوري لحقوق الإنسان الميال للمعارضة، والذي يُعتبر عادةً مصدر الكثير من الصحافيين الأجانب، أن تحقيقاته الخاصة أظهرت أن الانفجار وقع نتيجة قنبلة تُركت في الشارع، ولكن هذه المرة كان من الممكن تأكيد ما حدث فعلاً لأن المستشفى الشيعي يملك كاميرات خاصة أظهرت قذيفة الهاون في الهواء قبيل اصطدامها بالأرض (بدت واضحة لجزء من الثانية أمام القميص الأبيض الذي كان يرتديه أحد المارة قبل أن يُقتَل في الانفجار). إذن، ما حدث كان على الأرجح جولة أخرى من جولات القصف العشوائي بقذائف الهاون التي يطلقها الثوار في منطقة جوبر القريبة.وسط حرب أهلية ضروس، من الغباء أن يفترض الصحافيون أن أياً من طرفَي القتال، أكان الحكومة أو الثوار، لم ينسج الأخبار أو يتلاعب بالوقائع بطريقة تخدم مصالحه، ورغم ذلك يستند الجزء الأكبر من التغطية الإعلامية الأجنبية إلى هذا الافتراض.لا تقل خطة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وأصدقاء سورية لإنهاء الحرب بزيادة تدفق الأسلحة عن هذا الافتراض سخافة، إذ لن تؤدي الحرب إلا إلى المزيد من الحرب. تعكس قصيدة جون ميلتون، التي كتبها خلال الحرب الإنكليزية عام 1648 لمدح الجنرال والبرلماني، سير توماس فيرفاكس، الذي كان قد اقتحم كولشستر، فهماً أعمق بكثير لماهية الحرب الأهلية الحقيقية، مقارنة بما قاله ديفيد كاميرون ووليام هيغ. كتب:أتولّد الحرب غير الحرب؟وإلى أن تتحرر الحقيقة والصواب من العنف،وينفصل الإيمان العام عن الزيف العامالمخزي والمشين... عبثاً تنزف الشهامةفيما يتقاسم الأرض الجشع والسلب والنهب.Patrick Cockburn
مقالات
التحيز الإعلامي في سورية
04-07-2013