يكبر الطفل من دون أن تفرض مسألة تقبل الذات نفسها، فيكتشف العالم من حوله ويتلقى تعليمه في ظلّ حماية أهله. هكذا يجد نفسه في ظرفٍ آمن يتيح  له الترعرع ومواجهة الآخرين بثقة. تؤدي التربية دوراً أساسياً، في حال كان الأطفال يلقون الحبّ والدلال، وقد ترد في بعض الحالات انحرافات وإن كانت بسيطة إلا أنها تترك أثراً.

Ad

ثمة أهل يربون أطفالهم كأنهم ملوك على مملكة غير محدودة، فيكبر هؤلاء وهم يحاولون العثور على الحدود بين الممكن والمستحيل. في المقابل، يتعيّن على بعض الأطفال مواجهة أهل يجتهدون للسيطرة على كلّ شيء وإضفاء منحى مثالي على حياة أولادهم أياً كانت أعمارهم.

من جهة الأهل

يرسم الأهل لأولادهم أحلاماً وطموحات، يتمنون لهم أفضل حياة ويسعون إلى إبعاد مصاعبها عنهم. في مجتمعنا اليوم، كثر هم الأهل الذين يضغطون على أولادهم في ما يتعلق بدراستهم، علماً أن مستواهم في المدرسة متواضع، فيكون همهم الوحيد نيل أولادهم شهادة ومتابعة دراستهم الجامعية واكتساب إعجاب الأساتذة وازدياد فخر العائلة على الصعيد الاجتماعي، حتى وإن كانت حصيلة دوافعهم شعور أولادهم بثقل الضغط ومغبته. ليس غريباً أن يهبط طموح الأهل وأن يجدوا أنفسهم مرغمين على مغادرة عالم الأحلام والعودة إلى عالم الواقع.  

من جهة الأولاد

يرسم الأولاد أحلاماً مستقبلية. يكتشف بعضهم منذ صغره المهنة التي يحبها: ممرّض، بيطري أو رجل إطفاء، في حين يتمنى البعض الآخر جمع ثروة وتحقيق أفضل مما حققه الأخ الأكبر أو الأب أو الأم. غالباً ما تتعارض هذه الأحلام  مع الواقع لتتحقق في النهاية أو لتبقى ضرباً من المستحيل.

علاوةً على ذلك، تتداخل أحلام الأطفال مع أحلام الأهل ورغباتهم، فهم يعرفون أن الفشل في تحقيق النجاح في مجال عزيز إلى قلب الأهل يؤدي إلى خيبة أمل قد يشعر الأولاد بعدها، سواء كانوا أطفالاً أو مراهقين، بتراجع اهتمام أهلهم بهم وهو أمرٌ يخيفهم.  

مسألة وراثية

تمهد الطفولة التي تجمع بين أحلام أهلٍ لم تتحقق وطموحات شخصية لم تلقَ إلا خيبة أمل أو صعبة البلوغ، إلى إحباط لا ينبغي تجاهله، ويُعتبر الإرث الأول الذي يصعب حمله حتى لو ناقش الأهل أولادهم وعبروا لهم عن محبةٍ عميقة لا تتوقف عند أول فشل أياً كان نوعه.  

المزاج عامل يرثه الأطفال ويتطلب إدارةً حكيمة. قد تحفز التربية جوانب الشخصية التي تميّز الإنسان منذ ولادته. يسهل التمييز بين الطفل العصبي والطفل اللطيف والطفل المستقلّ والطفل الضاحك... تتطور هذه الصفات إلى أن تتحول إلى خصائص حقيقية تميّز الشخصية والطبع، وقد اختبر البالغون أوقاتاً أرادوا فيها التصرف بشكلٍ مختلف أو شعروا بأنهم لم يكونوا على قدر التوقعات.

في هذا الصدد يقول وليد (19 عاماً): «منذ أربع سنوات، خرجت من المدرسة برفقة صديق، وفي ناحية مقفرة تقريباً قطع ثلاثة شبان الطريق علينا في محاولة لسرقة هواتفنا المحمولة. شعرت بالهلع ولم أعرف ما العمل. راودني خوف على عكس صديقي الذي تصدى لأحد الشبان وضربه. لم أفهم كيف تمكّن من فعل ذلك، إلا أنه أردى الشاب أرضاً فهرع إليه الشابان الآخران ما منحنا فرصة الفرار. حين أفكر في الأمر وأتذكر رد فعلي أغضب ويعتريني الخجل. وددت لو علمت كيف أواجه الموقف بشجاعة. أدرك اليوم أنني لم أتغير وأنني أميل إلى التراجع وأحتاج إلى بعض الوقت لأحلل الموقف. يصعب عليّ تقبل طبعي وأحبّ أن أكون أفضل من ذلك...».

تبدو حالة وليد شائعة، فقد وجد ذلك الموظف نفسه في موقف مماثل حين عجز عن التصدي لهجوم مديره اللفظي، كذلك الأمر بالنسبة إلى تلك المرأة التي بقيت صامتة حين أهانها ذلك الرجل أو حتى ذلك الفتى الذي فقد سيطرته تماماً على نفسه. تتعدد المواقف التي تؤكد أننا لا نكون أحياناً على قدر توقعاتنا.  

في سياق مختلف، تقول منى (37 عاماً): «عمل والداي في إدارة مركز بيع منتجات جلدية. في تلك الفترة، كانت الأمور تسير بشكلٍ مقبول إلا أنني رفضت استلام المتجر لرغبتي في امتهان الطبّ، فأبدى والداي استعدادهما لدعمي مادياً، لكني فشلت في سنتي الأولى. ولما كان الأمر عادياً تخطيت الصدمة ولم أستسلم، إلا أنني فشلت مجدداً فتعيّن عليّ إعادة النظر في توجهي العلمي. أذكر الخيبة التي اعترت والداي بعد الفخر الذي شعرا به لأنني أقصد كلية الطبّ، لا سيما أنهما لم يتابعا دراستيهما. آلمني الأمر  إلا أنني لم أظهر ألمي رغم أنهما لم يلوماني. احتجت إلى سنوات قبل أن أتخطى الأمر وأقتنع بإمكان أن أحظى بحياة سعيدة ومحترمة».

 

خيبات أمل لا يمكن تجنبها

تختلف الفكرة التي نكوّنها عن أنفسنا عما نحن عليه حقيقة، كذلك الفكرة التي يكوّنها الآخرون عنا وما نحن عليه حقيقة، ما يسبب خيبة أمل.

على سبيل المثال، يضطر الأهل الذين يضبطون أولادهم يكذبون أو يغشون أو لا يعملون بشكل صحيح إلى إعادة فرض سلطتهم عليهم. ويتعين على الطفل أن يفهم أن حبّ أهله لن يتغيّر بل سيبقى كما هو، من دون شرطٍ أو قيد، من دون أن يمنع ذلك فرض عقوبات عند الضرورة والشعور بخيبة أمل حين يفشل في تحقيق طموح زُرع في قلب والديه منذ ولادته.  

تميل كفردٍ إلى العمل على سمات شخصيتك التي لا تُحتمل أو تعيق تقدمك، إلا أنك تدرك استحالة إجراء تغيير كامل، فشخصيتك قائمة على تاريخ وماضٍ وجينات ساهمت في تكوينها.

تتعدد الأساليب التي تتبعها لتتقدم من بينها: تعلّم أفضل أساليب الكلام، ممارسة تمارين للتنفس أو اليوغا للسيطرة على نفسك، التعبير عن مشاعرك بشكلٍ أو بآخر. علاوةً على ذلك، لا بدّ من أن تحلل خيبة الأمل وأن تلقي الضوء على أمور أعاقت تقدمك أو كلمات أغضبتك أو أثارت سخطك ونقمتك على الآخر.

للأسف، لا يتبع الناس في غالبيتهم هذا المنهج بل يميلون إلى تناسي الأمر ومحو خيبة الأمل التي تخجلهم. قد نتفهم تصرفهم، لا سيما أن قلة تحاسب نفسها، لكن ما إن يمرّ الإحباط الأول، حتى تحجّمه وتقلل من شأنه عندما ترغم نفسك على إعادة التفكير به.

 

إعادة التفكير

 

لا بدّ من أن تجبر نفسك على إعادة التفكير في الفترات المخيّبة للآمال والمحبطة. قد تميل، في المقام الأول، إلى تجنب الحديث عنها والتفكير فيها كي لا يعاودك الشعور بالغضب تجاه نفسك، فتدفن الأمر في إحدى زوايا عقلك لتتخلص منه من دون أن تتوصل فعلاً إلى نسيانه.

في المقابل يكثر أشخاص، يتمتعون بمزاج أكثر حدة يميل إلى المبالغة والمغالاة، من الكلام عن الأمر وكأنه انتصار أو متعة حقيقية مثيرة للضحك.

لتستمرّ في الحياة، يُستحسن أن تملك جرأة ضرورية لتعيد التفكير في أمورك كافةً على انفراد، فقد لا ترغب دائماً في مناقشة الأمر مع الآخرين كي لا تضخم الصورة التي تودّ أن تعكسها.  

في الواقع، حين تجبر نفسك على إعادة التفكير في لحظات مزعجة، وإعادة الاستماع إلى كلمات محرجة وإعادة تصوير الأحداث المحبطة ستكتشف ما يلي:

• سبب رد فعلك الأول غير المنتظر واستنتاجات مهمة تنفعك في المستقبل.  

• قد يكون رد الفعل هذا نتيجة ظهور شخصيتك الحقيقية، إزاء مصدر ضغط غير متوقع أجبرك على إظهار رد فعلٍ استغربته لأنك، بكلّ بساطة، غير معتاد على مواجهة نوع مماثل من المحن.  

• خيبة الأمل ناتجة من طموحات تفوق قدراتك الراهنة.  

في الحالتين الأولى والثانية، يساعدك إعادة التفكير في الأمر على معرفة نفسك بشكلٍ أفضل وتفهّم كيف تعمل وتفكر في أمور معينة، علّك تتمكن، على الأقل، من تصحيح نفسك بعض الشيء. بالتالي يبدو التعبير عما هو محمول أو غير محمول في مكان العمل أمراً لا غنى عنه حين يصعب الموقف. تشمل الحلول التي يمكن أن تجربها بذل جهد لتعدّل من نفسك وتكيّفها مع محيطك.

قد يصعب عليك، في بعض المواقف حين يكون الاعتداء جسدياً، أن تحسن استخدام أصول الدفاع الذاتي إذا كنت غير عدائي. في حالات مماثلة من الأفضل أن تبقى متيقظاً وحذراً مخافة الوقوع في موقف عدائي، وأن تفهم أن الخطأ يقع على عاتق المعتدي وليس على الضحية التي غالباً ما تشعر بالذنب لأنها لم تردّ بعنف.

في الحالة الثالثة، تُعزى خيبة الأمل إلى سبب مختلف ألا وهو خطأ في الأهداف التي رسمتها لنفسك، وأحياناً الرغبة في التعبير عن أمنية الأهل المكبوتة ولمَ لا الشريك. وإذ تواجه الفشل، تجد نفسك مرغماً على التفكير في طريق آخر خوفاً من الضياع، وفي رغباتك الحقيقية والاحتمالات المطروحة أمامك.

 

تقبّل الذات

لا يعني تقبّل الذات الاستسلام، بل يتطلب فترة طويلة قد تمتد سنوات إذ يستلزم رؤيةً واقعية عن قدراتك ونقاط ضعفك وعيوبك. يعني تقبلّ الذات أن تعرف نفسك حقّ المعرفة.

ما الذي يمنع أن تحلم باحتراف عزف الكمان أو بالمشاركة في بطولة التزلج على الجليد إذا تربيت على حبّ إحدى هاتين الهوايتين؟ في النهاية، هذا ما يحصل مع أناسٍ آخرين... يضفي الحلم والطموح زخماً حيوياً وضرورياً في حياة كلّ فرد شرط أن يكون الحلم قابلاً للتحقيق وضمن حدود الإمكانات والقدرات.

كذلك يتعين عليك تقبل سقوط طموحاتك، ورغم الفشل الذي قد يساورك إلا أن مواجهة الأمر تبقى ضرورية. لا يعني التخلي عن طموح صعب التحقيق التوقف. يمكن لعازف الكمان أن يمارس هوايته ويمتهنها في الوقت عينه أو أن ينطلق في مجال موسيقي آخر أو في العزف على آلة أخرى. أن تعيد صياغة طموحك لتتمكن من تحقيقه دليل ذكاء، المهمّ أن تحدد مشروعاً يدفعك قدماً. باختصار، يتعين عليك إعادة تقييم قدراتك بفضل معرفتك لنفسك من دون أن تستسلم وتلغي فكرة تحديد مشروع حياة إلى الأبد.

اعرف نفسك لتتقبلها

يصعب عليك تقبل نفسك أو التحكم بما تعتبره فشلاً بالنسبة إلى طموحاتك الأولى أو أن تتحمل فشلك في حلّ مشكلةٍ بسيطة. رغم ذلك، لا تيأس فالحل موجود، ومن الضروري أن تحافظ على  ثقتك بنفسك وبقدرك لتتقبل نفسك بشكلٍ تنطلق عبره إلى حياة سعيدة وأكثر صفاء.  

• اعمل على ذاتك ويومياً وبانتظام. قد لا يكون الأمر سهلاً إلا أنه مسلٍ إذ يتطلب منك البحث عما يسليك وعما تستحق عليه الثناء بدلاً من التركيز على أمور سيئة. استفد كذلك من مراحل تقدير الذات من خلال إعداد لائحة الإيجابيات التي تقوم بها يومياً لتدرك أنك لست إنساناً فارغاً.  

• العلاج النفسي: اطلب مساعدة اختصاصي واخضع لجلسات فردية قبل أن تنتقل إلى جلسات جماعية، قد تحلّ محلها، في حال بدت غير فاعلة، جلسات علاج نفسي تقليدية تحفز على تقدير الذات.  

• تحدث في الأمر: في بعض الحالات، يمكنك إتمام العمل بمساعدة شخصٍ آخر. حين تتشارك الحبّ وتتناقش مع شخصٍ آخر وتعبر عن مشاعرك يسهل عليك إدراك أنك محبوب، فلا تتردد في أخذ هذا الاقتراح في الاعتبار.

• طالع كتباً تناقش معرفة الذات وتروي تجارب الآخرين لتحقق التقدّم المنشود.