كارتر وموريرا و{عذاب الضمير}
قبل نحو 20 عاماً ونيف، أي عام 1993، انتشرت صورة للمصور الجنوب أفريقي كيفن كارتر، وتتضمن طفلة جائعة يائسة في السودان وقد حطَّ بقربها نسر ينظر إليها بصبر وينتظر موتها ليأكلها، كانت الصورة سبباً في انتحار مصورها بعد أشهر من التقاطها. وقبل أيام انتشرت صورة على الفيسبوك لمصارع الثيران الإسباني توريرو موريرا، وهو يجلس على حافة وينظر الثور إليه بعينين بريئتين وكأنه يقول له كلاماً مهماً، كانت الصورة كافية لاعتزال المصارع هوايته المفضّلة.
في مقاربة بين صورة كيفن كارتر الشهيرة وبين صورة مصارع الثيران الإسباني توريرو موريرا، نجد ألا شيء يجمع بينهما من حيث الشكل: الأولى أتت كدلالة على الجوع في القرن الأفريقي لمصور معروف، بعد انتحاره صار جزءاً مكملاً لأسطورة الصورة نفسها التي هزّت مشاعر العالم من أقصاه إلى أقصاه، وعلى رغم مرور 20 عاماً على التقاطها لا تزال موضوع تأويل وكتابات من هنا وهناك... والثانية صوِّرَت في حلبات المصارعة الإسبانية لمصور ما زال مجهول الاسم، ولا أهمية لمصور الصورة بل لمكوناتها، وهي تعبّر في جانب منها عن التخمة والترف والترفيه الوحشي الذي تشتهر به إسبانيا من خلال مصارعة الثيران. حتى إذا أردنا مقاربة وظيفتي الثور والنسر في الصورتين فهما تختلفان جذرياً وإن تقاطعتا في النظر إلى شيء محدد. الثور وفي لحظة نادرة بدا في نظرته من البراءة ما يكفي ليزعزع مشاعر إنسان، بل ليوحي بأنه أكثر «إنسانية» من الإنسان، على عكس وظيفته التي تقوم على الهيجان العدوانية. أما النسر الجائع الذي لطالما وصف بأنه ابن الأعالي والشموخ، فينظر بصبر إلى الطفلة الجائعة وينتظر فرصة لينقضًّ عليها كأنه أقل من كلب شارد.
غموض المعنىعلى أن المعنى الأعمق في الصورتين ليس مرئياً، وليس في الصورتين بحد ذاتهما بل في قصتيهما المثيرتين للاهتمام. فالمصور كيفن كارتر قام برحلة عمل إلى السودان، لتغطية المجاعة التي كانت تعصف بالبلاد حينها. وتوجه إلى قرية {أيود}، حيث سمع أثناء عمله صوتاً ضعيفاً لأنين طفلة هزيلة أنهكها الجوع والعطش، كانت تزحف ببطء شديد في طريقها إلى مركز لتوزيع الطعام. وقد غطَّ بالقرب منها نسر وهنا قال المصور: {انتظرت نحو 20 دقيقة لرؤية ما سيفعله النسر}، مشيراً إلى أنه التقط الصورة وأبعد لاحقاً النسر عن الطفلة. لكن المصور لم يسلم من الانتقادات اللاذعة التي وجهت إليه بسبب تجاهله تقديم المساعدة إلى الطفلة. وبيعت الصورة لصحيفة {نيويورك تايمز}، حيث عرضت للمرة الأولى في 26 مارس 1993. وفي الليلة ذاتها اتصل المئات من القراء بالصحيفة لمعرفة ما إذا كانت الطفلة قد نجت أم أنها فارقت الحياة، ما دفع «نيويورك تايمز» إلى إصدار تنويه خاص قائلة فيه: «تمكنت الطفلة من السير بعيداً عن النسر لكن مصيرها النهائي غير معلوم». تلك الصورة التي نالت جائزة «بوليتزر» طرحت السؤال حول أخلاقيات المهنة، خصوصاً في مرحلة المآسي. وما واجهه كارتر من أسئلة، يلاحق معظم مصوري آلام الإنسان في الحروب والمجاعات، حتى إن المصور البريطاني دون ماككولين صرَّح أخيراً: «لا شك في أن تصوير المأساة تقنياً ليس عسيراً ولا معقداً، ولكنني بذلت ثمناً باهظاً طيلة حياتي لقاء هذا، فأنا لم أبلغ الشهرة، وأحصل على جوائز عن تصويري آلام البشر من غير عذاب ضمير موجع».لقطة نادرة صورة المصارع الإسباني جالساً في مواجهة الثور ليست صورة لمأساة أو مجاعة، ومع الوقت ربما تصبح لها قصتها. هي باختصار لقطة نادرة لأنها تقبض على المعنى، فموريرا المصارع المحترف وصاحب الصيت في هوايته الوحشية لم يخطر في باله يوماً أن يضعه القدر في موقف يكون فيه ثور من ثيران حلبة المصارعة سبباً في تغيير حياته أو مزاجه، وهو الذي أحب مصارعة الثيران ومارسها بعنجهية لم يشفق يوماً على مقتل ثور على حلبة المصارعة. لكن كل شي تغير في لحظة ربما تشبه هبوط الوحي أو العاصفة النفسية. كتبت مواقع التواصل الاجتماعي أن الفطرة الإنسانية استيقظت في موريرا وهو يرى الانكسار في نظرة ذلك الثور الذي وقف أمامه ليحاصره عند زاوية من محيط الحلبة، بعدما غرز سكاكينه في ظهره.نظر بريئة تغلِّف عيني الثور الذي لم يقابل إساءة موريرا بإساءة مثلها، فوقف ينظر إليه وكأنه يقول بحسب ما ورد على الفيسبوك: {يا موريرا أنا الحيوان الذي غرزت سكاكينك في ظهري لن ألحق بك الأذى، كما فعلت أنت بي، ولن أعاملك بالمثل}. كانت هذه اللحظة من الثور كافية لتحطيم ذلك الوحش داخل المصارع، لتقلب حياته رأساً على عقب، ربما تدفعه إلى تأسيس {جمعية الرفق بالحيوان}، أو يتخذ من الممثلة بريجيت باردو مثالاً له.انتحاريكمن المعنى الجوهري لصورتيّ المصارعة والمجاعة في ما حملتاه من تأثيرات على أصحابهما قبل الآخرين، ففي 27 يوليو 1994 انتحر كارتر، وكان آخر ما كتبه: «أنا مكتئب... بلا هاتف... بلا مال للسكن... بلا مال لإعانة الطفولة... بلا مال للديون... المال! أَنا مُطَارَدُ بالذكريات الواضحة لحالات القتل والجثث والغضب والألم... وأطفال جائعين أَو مجروحين، مطارد مِنْ المجانينِ التوّاقين لإطلاق النارِ، مِنْ الجلادين القتلة... ذَهبتُ للانضمام إلى كين إذا حالفني الحظ}... هكذا كان التقاط صورة للطفلة الجائعة في السودان طريقاً لتعذيب ضمير المصور ومن ثم انتحاره، كأنه يقاضي نفسه.موقف المصارع موريرا لا يقل ضراوة عن موقف كارتر الاحتجاجي، ففي تلك اللحظة التي توضحت من خلالها صورة ثور المصارعة التي نشرتها مواقع التواصل الاجتماعي أدرك موريرا خيبته وقسوته من مصارعة الثيران، فقال: {عندما شاهدت البراءة في عيني الثور وسمعت أنينه شعرت بأنني أكبر حثالة على وجه الأرض...}، ليأتي قراره الحاسم باعتزال اللعبة نهائياً.صورة كارتر طرحت سؤالاً حول أخلاقيات المهنة، وصورة موريراً طرحت السؤال أيضاً حول بعض أخلاقيات الترفيه، وهكذا دواليك.