لم نكن بحاجة إلى أن ننتظر أصلاً حتى نرى ونكتشف أن مصدر الخلل الأساسي في حياتنا هو سوء الإدارة، كل شيء واضح من البداية حتى النهاية، أسلوب الإدارة الحكومية أنتج أسلوب المعارضة لها، وكلما ساءت الإدارة ساءت المعارضة، وكلما طالت المدة واتسع الخلل تكرست قيادات ومفاهيم ما كان لها نصيب من الوجود سوى لأن حكومتنا الرشيدة لا تجيد غير صنع الخصوم وفن إغاظة الناس.

Ad

في أوقات سابقة كانت الآثار السلبية لسوء الإدارة الحكومية لا تقترب من بيت الحكم والترتيبات الخاصة داخل الأسرة الحاكمة، كانت الحدود مرسمة والحظوظ مقسمة لا يدخل هذا على ذاك ولا يقلع السرب إلا مكتملاً، ولا يطير أفراده سوى بتشكيل واحد لا يتغير ولا يتبدل، والناس تراه "بالظاهر" هكذا واعتادت عليه وحفظته، وعندما يسمعون "بالغلط" كلمة هنا أو تأويلاً هناك يرددون بعبارة متوارثة "شيوخنا أبخص".

الحياة كانت أقرب "للحلوة"، والأهم أن الأمل الذي هو الروح التي يعيش عليها أي مجتمع كان قادراً على التنفس وسط كل المعطيات التي ينتجها نمط الإدارة الحكومية، وكيل بـ"المحاصصة" يُعيَّن أو يُجدد له وسط مجموعة من الوكلاء "الفاهمين"، موظف لا يتقن غير سرد "النسائب المنوية" التي حشرته بالمصادفة الوراثية والجينية مع سلسلة من الأسلاف الخيرين والخلائف المجتهدين يترقى ويترقى حتى يصل إلى سقف السماء، ومعه مجموعة من المستحقين، حالات لا نهاية لها ملخصها أن الأغلب من الأجود كان في سدة القيادة والعمل والقليل من محدودي الإمكانات يوجدون في دوائر ضيقة، والحياة ماشية والخدمات جيدة.

عملية التدمير الذاتي للجهاز الحكومي بدأت بطيئة أول الأمر ثم تسارعت مع الزمن، وضيق حيلة الإدارة الحكومية التي وجدت أن شراء الولاءات بأي ثمن هو العلاج الوحيد في مواجهة مجلس الأمة، حتى وصلنا إلى مرحلة تفرق السرب وتشتته وتوظيف كل مؤسسات الدولة في الصراع بين أبناء العمومة من جهة والحكومة ومعارضيها من جهة أخرى، وبات من السهل التضحية بأي شخص أو شخصية، بأي مؤسسة أو ركيزة، بأي التزام أو وثيقة، في سبيل البقاء والاستمرار فوق الساحة والابتعاد عن مناطق النسيان وخمول الذكر.

"هذا حكم مو لعبة"... والأمور وصلت إلى العظم، هل كنتم تَشكّون لحظة أن السلطة ستترك "مجلسها" يُطحن شعبياً دون أن تسنده بورقة يتقوى بها ويستر هزاله؟

هل تراهنون أن السلطة ستنحاز للوزير الشمالي و"ترهات" مخاطر تعليم الناس الاقتراض بنية عدم السداد، وتضحي بسمعتها وسمعة من ناصروا مرسوم الصوت الواحد؟

"الله يهداكم بس... بدل الشمالي ستين وزير، وبدل الحكومة ستين حكومة"، طالما حقل برقان موجود فهو كفيل بتسديد تكاليف إسقاط فوائد القروض، والقروض كلها إذا لزم الأمر.

"هذا حكم مو لعبة"... نحن نفهم ذلك جيداً، ولكن على من زيفوا الحقائق بأن الحد الفاصل بين تحقيق التنمية والانفتاح على العالم محصور في نظام "الصوت الواحد"، عليهم الاعتراف بأنهم شاركوا في جريمة تضليل الرأي العام، وأن العلّة فيمن "لعب بالحلال" بمفرده، أي الحكومة وبدون ضغط أو تهديد "المؤزمين".

الفقرة الأخيرة: ربما تتعثر تسوية القروض لكن وجود نفس التفكير ونفس الحماس يؤكد أنه لا شيء تغير.