هذا شاعر من بولندا القرن التاسع عشر، غير مألوف في الإنكليزية. ظل مجهولاً داخل الحركة الشعرية البولندية ذاتها حتى مرحلة متأخرة. إنه الشاعر سايبريان نورفد (1821 ـ 1883). خصص له الشاعر ميووش في كتابه «تاريخ الأدب البولندي» خمس عشرة صفحة. وهي المرة الأولى التي نتعرف فيها عليه عبر إشارات لافتة للنظر، منها أنه شاعر، ونحات ورسام، وأنه عاش حياة عزلة لا تخلو من غرابة، وأنه شاعر فيلسوف «نمت فلسفته بصورة عضوية مع صوره الشعرية» على حد تعبير ميووش.

Ad

بدأ نورفد بسمعة نقدية مبشرة، ولكن مع مرحلة النضج عزف عنه النقاد والقراء والناشرون بفعل غموض شعره حد الإغلاق كما يرون، وبفعل «حياة فردية على شيء من الغرابة والشذوذ»، كما يرى ميووش. ولد نورفد بالقرب من العاصمة وارشو، في عائلة معدمة من أصل نبيل. أصابه اليتم في وقت مبكر، ولكن مسعاه باتجاه المعرفة لم يتوقف، خاصة في حقل التاريخ والآثار. أسره، أول شبابه، التجوال على قدميه في ربوع بولندا، حتى شبع من فولكلور بلاده. وبعد العشرين تركها إلى ألمانيا وايطاليا ليدرس هناك النحت، ثم لم يعد بعدها.

لم يتوقف عن تجوال المستكشف، حتى أشبع شعره بروح «متوسطي»، وكأنه موزع على مصادر الهام من ايطاليا واليونان وحتى مصر. ولكن هذا الروح الجوال لم يكافأ إلا بالفقر والفاقة والحب الخائب. فالنحت أعجز من أن يكون مصدر رزق، والنفس أكبر من أن تعترف بالحاجة، والقلب يتعلق بامرأة غاية في الجمال والثراء ويكتفي بحب من طرف واحد. وهرباً من كل هذا يذهب إلى باريس، التي تعمق بدورها فاقته ومشاعر الاغتراب فيه. ومن باريس يغادر إلى أميركا (1852) حيث لا صحبة ولا عمل. ثم يعود بعد سنتين إلى لندن ثم إلى باريس، التي يقيم فيها حتى موته. هناك لا يلم شتات شيخوخته غير دار للعجزة. وعند موته لا يحتويه إلا قبر عام للمعدمين. إن هذه النهاية لتبدو ملائمة لشاعر عاش جوالاً دون عائلة، ودون انتساب حتى للجالية الهولندية المهاجرة، ودون أن يطبع من شعره غير مجموعة واحدة (1863)، بدت مغلقةً للجميع! حتى ان الكثير من نتاجه، الذي خلفه أوراقاً في دار العجزة، قد اتلف من قبل القيمين عليه بدافع سوء الظن.

    كان نورفد فارس حقيقة ضائعة أو موهومة مثل دون كيشوت. يواجه وحش حضارة صناعية ومصرفية واستهلاكية هيمنت على مقادير القرن التاسع عشر. ولكي يدافع عن موقفه أمام معاصريه يخاطبهم: «يا رجالَ المجد، لم آخذ، أمس أو اليوم، ورقةً واحدةً من إكليل غاركم/ والظلُّ الباردُ على الجبين لا يعود لكم، بل جاءني مع لمسةِ الشمس. ومنكم لم آخذ، يا كوكبة الشهرة، أيَّ شيء/ باستثناء طرقكم المزحومة بالديدان، وأرضكم الملعونة، والضجر/ وحيداً جئت، ووحيداً أواصل التجوال» (ص 45).

في قصائد نورفد معالجةٌ ملحّةٌ لمأزق الإنسان مع التاريخ. يقول ميووش: «إنه كان يلقب بـ»شاعر الخرائب»، لأنه يلجأ إلى مصادر التاريخ الأوروبي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وهناك يصغي إلى أصداء الماضي». في نهاية إحدى قصائد المجموعة يلمح إلى هذا بقوله: «لأن هذه الرموز وهي محروثة عميقاً، تجري عبر أجسادنا جميعاً كما يجري المعدن الخام في عروق الحجر».

العزلة المفروضة قد تدفع الشاعر، دون إرادة منه إلى مزيد من الإغلاق. وهذا ما حدث أحيانا لنورفد، بفعل ثقافته ومحتواها الفكري. القصائد المترجمة إلى الإنكليزية شعراً تكاد تشف عن معانيها الفلسفية بصورة تصح معها عبارة أن «فلسفته نمت بصورة عضوية مع صوره الشعرية: اسكافي أثيني قال لنحات ميال للحوار الأفلاطوني: من تفكيرك لن تحصد شيئاً، وإنما هو قتل للوقت. فأجاب النحات: أتحدثُ عن الأبدية منذ اخترت تأبيد اللحظات العابرة في حجارة. والمنحوتة تقاوم وحيدةً سنوات أكثر عدداً من الساعات التي تستطيعها كل أحذيتك».