في كثير من المناسبات والتظاهرات الفنية؛ كالمهرجانات والأسابيع السينمائية، يجد عاشق السينما نفسه وجهاً لوجه مع باقة أفلام منتقاة تقطر سحراً، ليس على صعيد اللغة السينمائية فحسب، بل في ما تتبناه من رؤية ناضجة لمخرجيها تعكس كثيراً من الوعي الإنساني والحس السياسي والاجتماعي، وهو ما يجعلها تتحول إلى غذاء للروح قبل أن تكون وسيلة لمخاطبة العواطف ودغدغة الأحاسيس، مثلما تؤكد أن ثمة من يُدرك الدور الخطير الذي تؤديه السينما في عالمنا الكبير.
فيلم «إلكترو شعبي» (77 دقيقة/ مصر - فرنسا 2013) عُرض في الدورة السادسة عشرة لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (4 - 9 يونيو 2013)، ولاقى كثيراً من القبول والاستحسان النقدي، لبراعة مخرجته التونسية هند مضب التي عملت كصحافية ومراسلة مستقلة وصانعة للفيلم القصير «كازابلانكا: تذكرة ذهاب إلى الجنة»، في رصد ظاهرة مصرية شديدة المحلية أبطالها أبناء الجيل الذي تربى في الأحياء المصرية الفقيرة والعشوائية، وأبدع نوعاً جديداً من الغناء الشعبي الممتزج بالإيقاع الإلكتروني، والذي يُعد تنويعة على «الراب»، ونجاحها في الربط بين الظاهرة ورغبة الشباب في التمرد والتعبير عن ذاته والخلاص من القيود التي تُكبله، والاضطهاد الذي يُحاصره!أما الفيلم الروائي القصير «اختفى في الزرقة» (12 دقيقة/ تركيا 2012) فاتسم بالعذوبة والشاعرية والانحياز الواضح إلى قضايا المرأة، التي يبدو أنها واحدة في العالم كله؛ فالمخرج عبد الرحمن أونير المولود عام 1984، ودارس الرياضيات في جامعة ديزله، والحاصل على منحة لدراسة صناعة الأفلام في جامعة إسطنبول الثقافية، التي تخرج فيها عام 2011، قدم بإيجاز مُبهر فيلمه الأقرب إلى اللقطة الواحدة حول امرأة تُعد العشاء لزوجها، وأثناء ذلك يفاجئها الرجل بأنه قرر الزواج من أخرى، وباستسلام للعادات والتقاليد وتحت سطوة المجتمع الذكوري، ترحب المرأة بوجود «ضُرتها» في المنزل. لكنه يُبلغها، بعنجهية وقسوة وغطرسة، أن الزوجة الجديدة لا ترغب في وجودها في المنزل، وهو ما دعاه إلى اتخاذ قرار بأن يبعث بها إلى أهلها، وهنا تحسم الزوجة المغلوبة على أمرها قرارها، وتُقدم على قتله. لو أن المخرج التركي عبد الرحمن أونير ارتكن إلى هذه المعالجة الدرامية، وهو يتناول قضيته، لاكتفينا بالقول إنه يُقدم فيلماً تقليدياً على شاكلة الأفلام التي يتحول فيها الأزواج، على أيدي الزوجات، إلى أشلاء في أكياس قمامة، لكن المخرج الشاب يباغتنا بلغة سينمائية ساحرة تجمع بين التكثيف والإيجاز؛ حيث تتحول الشاشة إلى نبضات من الإبداع المبهر التي تتدفق تباعاً؛ ففي اللقطة الأولى نشاهد امرأة وهي تنسحب من حجرة معيشة يبث فيها التلفزيون حواراً مع سيدة مُعرضة للطلاق، وأثناء مرورها نشاهد على جدار الممر إطاراً لصورة فوتوغرافية يجلس فيها رجل على مائدة طعام، وفي مواجهته مقعد شاغر. فجأة تدخل المرأة، التي شاهدناها تغادر للتو حجرة المعيشة الإطار، وتجلس على المقعد الشاغر في الصورة، ونرى الرجل (الزوج) وهو يتحدث من طرف واحد ليبلغها بما انتواه. وبلغة فنية مدهشة يتصاعد بخار «الغلاية» في غرفة المعيشة، ويُغطي على صورة الزوج في الإطار لنرى الزوجة وحدها، وهي تتحرك في النصف الخاص بها في «الكادر»، وفور أن يبلغها الرجل بقراره المجحف تنتقل إلى النصف الذي اختفى بفعل البخار، ونستمع إلى همهمات وصوت ارتطام، تعود الزوجة بعدها إلى مقعدها، وتبدأ في احتساء كوب من الشاي الدافئ، وبمجرد أن ينقشع البخار ويظهر «الكادر» كاملاً نشاهد الزوج مُلقى على الأرض، بعدما لفظ أنفاسه، بينما يستمر شريط الصوت في بث مقاطع من البرنامج التلفزيوني الذي يتناول مشكلة الضيفة التي طلقها زوجها!«يوم معاد» (7 دقائق/ بلغاريا 2012) فيلم آخر مُبهر، لكنه ينتمي إلى أفلام التحريك أخرجه سفيلين ديميتروف، الذي قالت سيرته الذاتية إنه بدأ الرسم وهو في الخامسة من عمره، وأنجز أول فيلم تحريك وهو في سن الحادية عشرة، ويرصد لحظة وفاة رجل، لكنه يختار ببراعة فائقة أسلوب «الفلاش باك» ليحكي وقائع اليوم الذي عاشه الرجل قبل وفاته، حتى يبدو الأمر وكأنه يسترجع شريط فيديو لحياة الرجل في ذلك اليوم القاتل!خلاصة القول إن الأفلام الروائية الطويلة، التي يتلاعب معظمها بالعواطف، تحظى بأكثر مما تستحق من اهتمام النقاد، الذين ينبغي عليهم التنقيب عن الأفكار والمواهب، وإلقاء الضوء على التجارب الأخاذة في السينما التسجيلية والروائية القصيرة والتحريك، وتبني لغتها المتجددة والاحتفاء بأفكارها الجديرة بالإعجاب؛ فهي أفلام لا تلعب على المضمون... ولا تدغدغ الغرائز!
توابل - سيما
فجر يوم جديد: أفلام لا تدغدغ الغرائز!
05-07-2013