في مقالي المنشور على صفحات "الجريدة" في عددها الصادر في 27 يناير الماضي طرحت سؤالاً هو: لماذا رفض المتهمون في مصر العفو الرئاسي؟ واتخذت من السؤال عنواناً للمقال، وكانت إجابتي، لأن العفو الرئاسي قد حرمهم من المحاكمة العادلة المنصفة.

Ad

وأعتذر للقراء في أن المقالين التاليين في 3 و10 يناير فرضتهما أحداث جسام، لم تترك لي سبيلا إلى الوفاء بوعدي، لتناول المخالفات الشرعية والدستورية في قرار العفو الرئاسي.

مخالفة مبادئ الشريعة الإسلامية:

في ما تنص عليه الآية الكريمة "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ"، فهذه الآية تجسد الهدف من العقوبة، وهو حماية المجتمع من الجريمة، فإزهاق روح إنسان، امتثالا لقول المولى عز وجل "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ".

ولكن المولى عز وجل يقول "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ".

والقصاص واجب عند أكثر العلماء في جنايات العمد سواء وقعت على النفس أو دونها، والدية واجبة عن عدم العمد في القتل لقوله سبحانه "وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ"، أما إذا كان الجاني لا مال له فبيت المال يتحمل ديته. ولم تجز الشريعة الإسلامية لولي الأمر أن يعفو حتى لا يتعطل حق ولي الدم، فالقصاص فيه حق لله وحق للعبد، وغلب الفقهاء فيه حق العبد.

والهدف من إيراد هذه الأحكام هو التدليل على أن تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما تجري به ألسنة التيار الإسلامي الحاكم في مصر، وجرت فيه الهتافات أمام جامعة القاهرة أول أمس رهنا بمصالح هذا التيار في الحكم، فحيثما تكن المصلحة يكن شرع الله، كما يقول الأصوليون، ولكن هؤلاء لم يقصدوا بالمصلحة، ما قصده التيار الإسلامي الحاكم في مصر، بل قصدوا مصلحة المجتمع، عندما لا يكون هناك نص من كتاب المولى عز وجل أو من سنّة نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم.

العفو في دستور مصر

جاء العفو في دستور مصر 2012 حقاً مطلقا لرئيس الجمهورية في ما نصت عليه المادة (149) من أنه لرئيس الجمهورية العفو عن العقوبة وتخفيضها، وفي ما نصت عليه المادة (141) من انفراد رئيس الجمهورية باستخدام هذا الحق، استثناءً من الأصل العام الذي نصت عليه هذه المادة من ممارسة الرئيس سلطاته بواسطة وزرائه. وعلى العكس من ذلك فإن الأمير في الكويت، يمارس هذا الاختصاص شأن غيره من اختصاصات بواسطة وزرائه.

ولا نجد من سبب أو حكمة يقوم عليها نص الدستور المصري، سوى أن يكون الهدف من هذا النص ومن غيره من نصوص أطلقت يد رئيس الجمهورية في ممارسة كل الصلاحيات في شؤون الحكم، دون أخذ رأي وزرائه أو موافقتهم، أن يكون الهدف هو الحكم الفردي وتأليه الحاكم، فهي ثقافة مصرية ترتد إلى ماض سحيق منذ آلاف السنين، عندما كان الفرعون إلهاً.

المحاذير الدستورية

وترجع الأهمية التي تولى للعفو عن العقوبة ووجوب ممارسة الرئيس لها بوسطة وزرائه إلى أن العفو عن العقوبة ينطوي على افتئات على مبادئ وأحكام دستورية هي:

1- أن الرئيس لا يسأل سياسياً، وأن الوزراء هم المسؤولون سياسيا، أمام البرلمان، وحيثما توجد السلطة تقم المسؤولية.

ومن ثم فإن كل قرارات العفو التي يصدرها الرئيس، سوف تكون بمنأى عن المساءلة السياسية إن أساء الرئيس استخدامها. وقد تناقلت الصحف اليومية أن الرئيس عفا عن أحد تجار المخدرات الذي هرب من السجن بعد فتح أبواب السجون في 25 يناير 2011، وهو ما كان يستوجب المساءلة السياسية، والرئيس غير مسؤول سياسياً.

2- العدوان على مبدأ الفصل بين السلطات، والتدخل في شؤون العدالة والقضايا.

3- افتراض البراءة في الإنسان إلى أن تثبت إدانته بحكم قضائي نهائي، وحق الإنسان في الدفاع وفي محاكمة منصفة وعادلة أمام قاضيه الطبيعي، وهو ما يقتضي أن يصدر العفو بعد المحاكمة وصدور حكم نهائي وباتٍّ بإدانة المتهم.

العفو الرئاسي في فرنسا

ولهذا كان حق العفو الخاص الذي يمنحه الملك في فرنسا خاضعاً لرقابة قضائية، كما كانت طلبات العفو تعرض على قضاة البرلمان في ظل النظام القديم.

وقد نص دستور فرنسا 1958 في المادة 65 فقرة ثالثة على وجوب أخذ رأي المجلس الأعلى للقضاء، ويصدر المجلس رأيه بناء على توصية وزير العدل.

كما يجب أن يوقع رئيس الحكومة ووزير العدل على قرار العفو إلى جانب رئيس الجمهورية طبقا للقرار رقم 58/1271 الصادر بتاريخ 22/12/1958.

للحديث بقية إن كان في العمر بقية.