منذ ثلاث سنوات، أطلق رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض خطة طموحة لبناء مؤسسات حكومية فاعلة ومتجاوبة ونظيفة. كانت النتائج مبهرة وحصل فياض على إشادة واسعة باعتباره الشخصية التي تحرز تقدماً حقيقياً لتفعيل حل الدولتين على الرغم من تعثر المفاوضات الرسمية.
لكن في هذه الأيام، يواجه هذا المشروع كله تهديداً خطيراً، فقد ضعفت الرؤية العالمية السياسية والاجتماعية التي تغذي مقاربة فياض بسبب قدرة "حماس" الواضحة على تصعيد الصراع المسلح والاستفادة منه سياسياً. لكبح هذه النزعة المزعجة، يجب أن يعترف المجتمع الدولي وإسرائيل بأن بناء المؤسسات الفلسطينية هو أولوية استراتيجية بدل التركيز حصراً على المسائل الاقتصادية أو التقنية. لا بد من اتخاذ خطوات عاجلة على جميع المستويات لإنقاذ هذا المشروع، وإلا ستمهد رؤية الاستقلال الفلسطيني والسلام مع إسرائيل لتطبيق مقاربات تصادمية ستسيء إلى جميع الأطراف حتماً.لا يمكن إنكار التقدم الذي تحقق حتى الآن. في عهد فياض، تخلصت السلطة الفلسطينية من الفساد البنيوي في الوزارات والوكالات العامة الأخرى التي تسيطر عليها. كانت قوى الأمن الفلسطينية تضمن أمناً غير مسبوق للفلسطينيين والإسرائيليين معاً. في عام 2011، أصدرت الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي تقارير تؤكد أن السلطة الفلسطينية تتماشى بالكامل مع معيار الاستقلال. ذكر تقرير البنك الدولي في عام 2011: "السلطة الفلسطينية أصبحت في موقع يخوّلها تأسيس دولة في أي مرحلة من المستقبل القريب". في أبريل 2011، ذكرت الجهات المانحة الدولية أن "المؤسسات الفلسطينية يمكن مقارنتها بتلك الموجودة في الدول المستقلة القائمة".لكن ساءت الأمور منذ ذلك الحين، فيتعارض الوضع الراهن بشدة مع الوضع الذي شهده عام 2011، إذ تعجز حكومة فياض الآن عن دفع رواتب أكثر من 140 ألف موظف في القطاع العام (بما في ذلك الأساتذة والممرضات وضباط الشرطة والعاملين في الخدمة المدنية). توشك مؤسسات السلطة الفلسطينية على الانهيار. أصبح مليون فلسطيني مهدداً بالغرق في الفقر خلال السنة المقبلة نتيجة الأزمة الاقتصادية.تفاقمت الأزمة المالية التي تواجهها السلطة الفلسطينية حين فشلت منظمة التحرير الفلسطينية في عام 2011 في كسب الدعم اللازم لمنح فلسطين صفة "الدولة العضو" في الأمم المتحدة، ما أدى إلى تراجع المساعدات القادمة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. زاد الوضع سوءاً الآن بسبب قرار إسرائيل الاحتفاظ بعائدات الضرائب الفلسطينية رداً على النجاح الفلسطيني في كسب صفة "دولة مراقب غير عضو" في عام 2012 في الأمم المتحدة.وفق بروتوكول باريس لعام 1994، تجمع إسرائيل الضرائب المفروضة على الصفقات التجارية مع الفلسطينيين (تصل نسبتها إلى 50% من التزامات ميزانية السلطة الفلسطينية شهرياً)، وهي مُجبرة على تحويل العائدات إلى السلطة الفلسطينية. عملياً، تحصل إسرائيل بذلك على طريقة سهلة لإغراق السلطة في أزمة مالية كلما رغبت في ذلك بهدف الضغط على القيادة الفلسطينية.أعلنت إسرائيل أيضاً خططا لاستعمال الأموال المحجوزة لدفع الفواتير الضخمة التي يدين بها الفلسطينيون (تفوق قيمتها 350 مليون دولار) لشركة كهرباء إسرائيل. لكن لا تعود تلك الديون إلى حكومة السلطة الفلسطينية بل إلى شركات الكهرباء الفلسطينية الخاصة في الضفة الغربية وغزة. تخضع غزة طبعاً لسيطرة "حماس" التي لا تأخذ عناء جمع الأموال من المستهلكين. هذا القرار الإسرائيلي لا يؤذي السلطة الفلسطينية فحسب بل إنه يفيد "حماس" مباشرةً (وينقذ رجال الأعمال الفلسطينيين الذين لا يدفعون ديونهم)، ويحصل ذلك كله على حساب الشعب الفلسطيني العادي مثل موظفي القطاع العام وعائلاتهم.على المستوى السياسي، تؤدي هذه الخطوة أيضاً إلى إضعاف الزعيم الفلسطيني الوحيد الذي لم يتردد يوماً في التعامل علناً مع المجتمع الدولي وإسرائيل. لطالما سعى فياض إلى فرض القانون والنظام واستئصال الفساد المنهجي داخل الوزارات والوكالات التي يسيطر عليها. أثبتت الاضطرابات التي رافقت الحرب الأخيرة في غزة مدى فاعلية حكم السلطة الفلسطينية، فقد نجحت قوى الأمن الفلسطينية في الحفاظ على الأمن في الضفة الغربية في ظل ظروف صعبة. لكن أصبح فياض اليوم معروفاً أمام الرأي العام بعجز حكومته عن دفع رواتب موظفي القطاع العام.في غضون ذلك، ارتفعت أسهم "حماس" بعد صراعها الأخير مع إسرائيل، فقد تحسنت مكانتها الإقليمية على الصعيد الدبلوماسي مع الحلفاء مثل الحكومة التي يقودها "الإخوان المسلمون" في مصر وقطر التي تعهدت أخيراً بتقديم مساعدات إضافية بقيمة 400 مليون دولار وبإطلاق مشاريع لإعادة إعمار غزة التي تسيطر عليها "حماس".قد تؤدي الضغوط التي يفرضها نفوذ "حماس" المستجد واحتفاظ إسرائيل بالعائدات الفلسطينية وتراجع الهبات إلى انهيار السلطة الفلسطينية في نهاية المطاف. بدأت الاعتصامات والتظاهرات في الضفة الغربية نتيجة المصاعب الاقتصادية منذ بضعة أشهر، وقد أصبحت مظهراً مألوفاً في المشهد السياسي الفلسطيني. حاول مسؤولون في "حماس" و"فتح" استغلال مشكلة عدم دفع الرواتب لتصفية حساباتهم مع فياض وعرقلة سياساته.رد فياض على قرار إسرائيل الاحتفاظ بالعائدات الضريبية الفلسطينية عبر دعوة الشعب الفلسطيني إلى شراء المنتجات الفلسطينية بدل الإسرائيلية طوعاً، وكان الرد اقتصادياً على ذلك التدبير الاقتصادي الإسرائيلي: لم يستعمل فياض قط كلمة "مقاطعة" كما ذكرت بعض التقارير غير الدقيقة. كما أنه لم يتحدث عن منتجات المستوطنات تحديداً ولم يطالب بفرض أي تدابير رسمية. لقد تداولت الصحافة الفلسطينية والدولية تصريحاته بشكل عشوائي وغير دقيق.تحصل هذه التطورات كلها تزامناً مع إعلان إسرائيل توسيع نشاطاتها الاستيطانية بشكل حاد، بما في ذلك بناء أكثر من 5 آلاف وحدة سكنية في أهم المناطق الاستراتيجية في القدس ومحيطها. إذا استُكملت هذه الخطط الاستيطانية المقترحة، سيصعب (بل يستحيل) أن تصبح القدس الشرقية عاصمة أي دولة فلسطينية لأن تلك الخطط تهدد بفصل المدينة عن بقية الضفة الغربية بشكل شبه كامل. ذُكرت المخاطر التي تطرحها هذه الخطط على حل الدولتين من جانب وزارة الخارجية الأميركية، و14 بلداً من الدول الأعضاء الأخرى في مجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي، وقد عبرت هذه الأطراف كلها عن قلقها الشديد من تنفيذ مشاريع الاستيطان التي أعلنتها إسرائيل. تراجعت آمال الرأي العام الفلسطيني باحتمال إقرار حل الدولتين إلى أدنى المستويات على الإطلاق، وبدأ هذا اليأس ينتشر إقليمياً ودولياً وحتى في أوساط الإسرائيليين المؤيدين للسلام.يبدو أن انهيار حل الدولتين وضعف السلطة الفلسطينية يدفعان الصراع الإسرائيلي الفسلطيني إلى عتبة أزمة معقدة. اتضح هذا الأمر نتيجة الأزمة المالية والسياسية التي تواجهها قوى الأمن الفلسطينية، إذ لا يحصل أعضاؤها على رواتبهم وقد ضعفت صورتهم كَحُماة للمشروع الوطني الفلسطيني أمام الرأي العام وفي أوساطهم الداخلية أيضاً. إنه السبب الأبرز الذي يفسر الحاجة إلى اتخاذ تدابير سريعة وفاعلة لإنهاء الأزمة المالية.تبدو النزعات الراهنة قاتمة: تزداد قوة "حماس" في غزة والضفة الغربية معاً بينما تجد السلطة الفلسطينية المجردة من مواردها المالية صعوبة في ابتكار حل بديل فاعل. إذا استمر هذا الوضع، سيشهد العالم ما سماه فياض حديثاً "الهزيمة العقائدية" لكل من يعمل على إحراز التقدم عبر استراتيجيات سلمية. يبدو أن الرسالة التي يتلقاها الفلسطينيون هي أن سياسة الشراكة مع إسرائيل والولايات المتحدة والمجتمع الدولي محفوفة بالمخاطر أكثر من المواجهة المفتوحة.لم يفت الأوان بعد على تصحيح هذا المسار ومنع تدهور الوضع. يجب أن تتناقش إدارة باراك أوباما وإسرائيل بكل صراحة حول هذا الموضوع الذي يُعتبر محورياً بالنسبة إلى المصالح الوطنية في البلدين معاً، ويجب أن يضمن الطرفان تأمين التمويل للمشاريع التي تتابعها السلطة الفلسطينية لمنع انهيارها وإعادة ترميم مصداقيتها. لم يفت الأوان بعد... لكن بدأ الوقت ينفد على نحو خطير!Ghaith al-Omari & Ziad Asali
مقالات
انهيار السلطة الفلسطينية بات وشيكاً
09-01-2013