في ربيع عام 2008، أنشأت فتاة مصرية في الثامنة والعشرين من عمرها تُدعى إسراء عبدالفتاح صفحة على موقع فيسبوك لدعم إضراب ضد نظام حسني مبارك المستبد، ولم يكن لذلك الإضراب تأثير كبير، إلا أن صفحة الفيسبوك جذبت عشرات آلاف المتابعين، ما أدى إلى اعتقال عبدالفتاح، التي تحوّلت بين ليلة وضحاها إلى رمز لحركة متفتحة من الشباب المصري المطالب بالتغيير الديمقراطي.

Ad

بعد ثلاث سنوات، تحوّلت هذه الحركة إلى ثورة أطاحت بمبارك وفتحت، على ما يبدو، الباب أمام الديمقراطية الليبرالية التي حلم بها ناشطو موقع فيسبوك. فحصلت عبدالفتاح على جوائز كثيرة من مجموعات غربية، وترأست منظمة غير حكومية تُدعى المعهد المصري الديمقراطي، وتلقت التمويل من الصندوق الوطني للديمقراطية في واشنطن. كذلك رُشحت لجائزة نوبل للسلام، وعندما التقيتها في القاهرة في أواخر عام 2011، كانت تستعد بحماسة لمراقبة الانتخابات البرلمانية الأولى في مصر.

لكن عبدالفتاح تشارك اليوم الكثير من الديمقراطيين المصريين السابقين في التهليل لانقلاب عسكري ضد حكومة محمد مرسي المنتخبة. يشير أحد المقالات الصادرة في صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أنها حاولت تبرير التدخل العسكري بمغالاة في الخوف من الغرباء، قائلةً: "عندما يحاول الإرهاب إحكام قبضته على مصر ويقحم الغرباء أنفسهم في شؤوننا الداخلية، من الطبيعي أن يدعم الشعب المصري العظيم القوات المسلحة كي تتصدى لهذا الخطر الخارجي".

ماذا حلّ بالليبراليين المصريين الشبان؟ قبل خمس سنوات، شكّل هؤلاء الشبان الحركة الأكثر إشراقًا في عالم عربي يسيطر عليه حكام مستبدون مثل مبارك. ولكن نرى معظمهم اليوم يهللون لجنرال آخر، قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي، الذي تظهر صورته المزينة على الكثير من الملصقات في أنحاء القاهرة المختلفة مع صور الدكتاتوريين العسكريين السابقين جمال عبدالناصر وأنور السادات.

يُعتبر هذا التبدّل المحير غير مسبوق في تاريخ الحركات الشعبية الموالية للديمقراطية، فلم تحلم حركة التضامن في بولندا أو الحركة المناهضة لبينوشيه في تشيلي حتى في دعم حكامهما المستبدين السابقين.

قد يقول البعض، دفاعاً عن ديمقراطيي مصر السابقين، إنهم اضطروا، بخلاف نظرائهم في دول أخرى، إلى المحاربة على جبهتين: فلم يقاتلوا ضد حكم مستبد يدعمه الجيش فحسب، بل أيضاً ضد حركة عقائدية (جماعة الإخوان المسلمين) بدت خلال حكم محمد مرسي مصممة على احتكار السلطة. ويشبه ذلك مواجهة بينوشيه ثم حزب لينين الشيوعي. صحيح أن الليبراليين أشعلوا ثورة عام 2011، إلا أنهم ظلوا أضعف من الجيش و"الإخوان المسلمين" على حدّ سواء، فهم أقل غنى، أقل تنظيماً، وأقل انضباطاً، وكما أظهرت خمس عمليات انتخابية في غضون سنتين، لا يتمتع الليبراليون بدعم يُذكر بين سكان الأرياف والفقراء خارج القاهرة.

كان الليبراليون في البداية فخورين ببنيتهم التي تعتمد على شبكة منظمة لا رأس لها، إلا أنهم اضطروا في النهاية إلى تأييد مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية السابق محمد البرادعي واعتبروه قائدهم. لكن هذا بدا خياراً كارثياً: فلم يحقق البرادعي المتعجرف والتافه، الذي يفضّل الجلوس في أحد صالونات البندقية على التنقل في حي شعبي في القاهرة، نتائج تُذكر، قبل أن ينسحب من السباق الرئاسي السنة الماضية.

بعد أن خسر الليبراليون مرشحهم، صار عليهم الاختيار في المرحلة التي سبقت الانتخابات بين مرشح الجيش ومرسي الإسلامي. فدعم معظمهم مرسي، والتقى وفد من القادة الشباب مرشح "الإخوان المسلمين" وحصلوا منه على وعود: تشمل الحكومة وزراء علمانيين، ويُصاغ الدستور الجديد بالتوافق بين الأحزاب العلمانية والإسلامية.

وفى مرسي ببعض وعوده، إلا أن حكومته ازدادت عزلة وقسوة، فيما راحت تواجه بقايا مؤسسة عهد مبارك في البيروقراطية والشرطة والقضاء. فتعرض الصحافيون الليبراليون للملاحقة القضائية بتهمة "إهانة الرئيس"، كذلك اعتُقل عدد من قادة الثورة الشباب لأنهم قادوا التظاهرات في الشارع.

كان من الممكن أن ينتظر الليبراليون ويستعدون للانتخابات البرلمانية، التي كان يُفترض إقامتها بعد بضعة أشهر، خصوصا أن استطلاعات الرأي أظهرت أن شعبية "الإخوان المسلمين" كانت تتراجع بسرعة، لكنهم فضلوا المخرج الأسرع ودعموا الطرف الآخر. وكما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال"، في الأشهر التي سبقت الانقلاب، التقى قادة المعارضة العلمانية بانتظام مع كبار الجنرالات المصريين، الذين وعدوهم بالتجاوب مع التظاهرات الشعبية الحاشدة بالإطاحة بمرسي.

يذكر الليبراليون مرة أخرى أنهم حصلوا على وعود من شركائهم الجدد: سيُعدّل الدستور بسرعة، وسيلي ذلك انتخابات حرة ونزيهة. وبعد أن ألهتهم نشوة انتصار "ثورتهم الثانية"، أقنعوا أنفسهم أن الجيش سينسحب من السياسة، وأن إسلاميي مصر لن يحققوا النصر مجدداً في الانتخابات.

في هذه الأثناء، يشارك نائب الرئيس البرادعي في حكومة تعتقل مئات السجناء السياسيين، أقفلت "الجزيرة" ومحطات فضائية إسلامية، وأطلقت النار على عشرات المتظاهرين غير المسلحين في الشارع. ولا شك أن هذه النتيجة ما كانت تتمناها إسراء عبدالفتاح وأصدقاؤها الشبان المثاليون قبل خمس سنوات.

* جاكسون ديهل | Jackson Diehl