فاجأتني ليلة افتتاح الدورة 16 لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة بأنها عائدة إلى القاهرة لإحياء ذكراه، ولحظتها تذكرت، وكلي خجل، أن الذكرى الحادية عشرة لرحيل رضوان الكاشف (6 أغسطس 1952 – 5 يونيو 2002) تمر علينا، ونحن في شاغل يلهينا عن تذكر ذلك الشاب المبدع ابن سوهاج (جنوب مصر) الذي ولد في حي السيدة زينب، ولم يكتف بالحصول على ليسانس الفلسفة من كلية الآداب في جامعة القاهرة عام 1978، بل التحق بقسم الإخراج في المعهد العالي للسينما في القاهرة، وأظهر نبوغاً ملحوظاً. حتى إنه كان أول دفعته في القسم الذي تخرج فيه عام 1984. آنذاك، فاجأ الجميع بفيلمه الروائي القصير، مشروع تخرجه، الذي اختار له عنوان {الجنوبية}، وأعلن من خلاله تمرده على الموروث المتحجر، كذلك أظهر انحيازه المطلق إلى قضية تحرر المرأة، من خلال الفتاة التي ترفض قيود مجتمعها الذي يحرم عليها الزواج ممن تحب، وتفرض إرادتها الحرة مما يُعرضها للقتل، وبعدها عمل كمساعد مخرج لكثير من المخرجين مثل: يوسف شاهين، رأفت الميهي، داود عبد السيد ووحيد مخيمر... وغيرهم.
أكرمتني الأقدار عندما قادتني إلى موقع تصوير فيلمه الروائي الطويل الأول {ليه يا بنفسج} (1992). أحسست حينها أنني بصدد مخرج {موهوب بالفطرة} و{معجون سينما}، كما يقولون في مصر؛ فالفيلم مكتمل في عقله، على رغم أنه قيد التصوير، وقيادته {العاطفية} لممثليه: فاروق الفيشاوي، أشرف عبد الباقي، نجاح الموجي والراقصة لوسي، تؤكد أنه {مايسترو} قادر على استخراج أفضل ما في جعبتهم، بدليل أنه بدَل الصورة الذهنية المعتادة عنهم، وأذهل الجميع مع العرض الأول بتقديم مشاهد غاية في العذوبة والشجن تألق فيها نجاح الموجي وأشرف عبد الباقي، اللذان اشتهرا ببراعتهما في تمثيل الأدوار الكوميدية. كذلك وظف القدير سيد عبد الكريم بشكل مغاير عن أدواره التلفزيونية، ولم يكن بعيداً في موضوع فيلمه عن هموم الفقراء والمهمشين!استرجعت شريط ذكرياتي معه لحظة أن أبلغتني زوجته الناشطة السياسية عزة كامل (والدة ابنته المخرجة عائدة الكاشف وابنه مصطفى) بأنها مُضطرة إلى مغادرة أروقة المهرجان ليلة الافتتاح للترتيب لمراسم إحياء ذكراه، وأكبرت فيها وفاءها النادر في زمن عز فيه الوفاء، وما لبثت أن عدت إلى ذكرياتي مع ذلك الشاب المفعم بالحيوية والنشاط، الذي كان بحق {ابن موت}، كما يصف {الصعايدة} الشاب الذي يسبق عصره، ويموت في سن مبكرة؛ إذ لم يضع دقيقة من وقته، وسابق الزمن ليحقق أحلامه العريضة، ومع فيلمه الروائي الطويل الثاني {عرق البلح} (1999) استلهم تراثه وكرس هويته وأكد خصوصية أسلوبه. لكن الشركة المنتجة للفيلم تآمرت ضده، ورفعت نسخ الفيلم من صالات العرض السينمائي، بعد أسبوع من طرحها، الأمر الذي أصابه بإحباط كبير، وجرح غائر أغلب الظن أنه لم يندمل حتى لحظة وفاته.حدث ذلك مع {عرق البلح}، الذي استمر عرضه في الصالات الفرنسية ما يقرب من ستة أشهر، واختارته إدارة مهرجان دمشق السينمائي الدولي عام 1999 ليكون فيلم افتتاح الدورة الحادية عشرة، وبعدها بعامين أنجز فيلم «الساحر» (2001)، الذي كان له الفضل في اكتشاف الوجه الجديد منة شلبي، وحصد جائزة أفضل فيلم عربي في الدورة الثانية عشرة لمهرجان دمشق السينمائي. كذلك افتتح مهرجان خريبكة المغربي في عام 2002، وشارك في مهرجان سينما العالم العربي الذي كان يُقام في باريس. وبعد عودة «الكاشف» من مهرجان روتردام للفيلم العربي في هولندا، والذي شارك فيه بفيلمه الأخير «الساحر»، داهمته أزمة قلبية تٌوفي على أثرها، عن عمر يناهز الخمسين.للمخرج رضوان الكاشف وجه آخر ناصع يتمثل في أبحاثه التي قدمها أثناء دراسته في كلية الآداب، وتناول من خلالها الفلسفة الصوفية عند «ابن عربي» و{ابن الفارض» و{الفارابي»، وبعد تخرجه ألّف كتابين؛ أولهما «الحرية والعدالة في فكر عبد الله النديم» عن خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم، والثاني بعنوان «تجديد الفكر عند زكي نجيب محمود» تم نشرهما قبيل دخوله المعتقل في زمن السادات، وخرج منه ليلتحق بمعهد السينما؛ فقد كان مثقفاً وثائراً ومناضلاً سياسياً بامتياز مثلما كان مبتكراً ومُجدداً كصانع للأفلام، وصاحب قصيد سينمائي متميز ومتمرد، غير أن المفارقة المثيرة أنه كرس في فيلمه الأخير «الساحر» لنظرية البهجة ثم اختار الرحيل، في الذكرى الخامسة والثلاثين لهزيمة يونيو، من دون أن ينعم بشيء من تلك البهجة!
توابل - سيما
فجر يوم جديد: «الكاشف»... المتمرد
17-06-2013