«أولغا» تقتل علي في شارع بلس

نشر في 17-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 17-07-2013 | 00:01
No Image Caption
في ذلك المساء، هبت العاصفة {أولغا} باردة من سيبيرية الروسية، غيوم ضخمة غطت السماء ووصلت إلى لبنان، غيوم لا نعرف كيف تتجمع فجأة، غيوم هطلت ثلوجاً فوق السهول والجبال ووصل ثلجها إلى السواحل في لبنان، السيول تحمل معها الأوحال تدخل البيوت في بعض المناطق، السيول تجرف الأتربة والنفايات وتدخل البيوت المبنية على عجل في ضواحي المدينة، صراخ النساء في العاصفة لا يرد تدفق الماء، كاميرا التلفزيون تحب صور الخراب، تصوِّر كل شيء.

أولغا تأتي شرسة من روسيا، أجلس على الكنبة أسمع اسم العاصفة أتخيل حبيبة الشاعر إلياس أبو شبكة، كل فتاة روسية في مخيلتي هي أولغا. هل تكون أولغا العاصفة مثل امرأة... كل امرأة روسية هي عاصفة بمفاتنها.

أولغا تأتي شرسة من روسيا، الرطوبة تخترق عظامي، أشعر بضيق في التنفس، وتشنج في عضلات كتفي اليسرى، المطر يسقط غزيراً فوق كرم الزيتون قبالة بيتي، مرأب السيارات في المبنى أصبح مستنقعاً، عواء الكلب يصل خفيفاً من بعيد، حائط الدعم لدار المبنى يتصدع ويحدث صوتاً.

الكاميرا ترصد الثلج على المرتفعات.

الثلج يسقط بغزارة فوق الجبال، الطرقات مقفلة منذ المساء، وأشعر بكآبة من الزجر في البيت، {أولغا} مستمرة لأيام بشراستها، الكآبة مستمرة أيضاً، أشعر بضيق في التنفس مع أني دائماً كنت أحب المطر والثلج.

العاصفة مستمرة.

علي مات في اليوم الثاني للعاصفة، علي قتلته أولغا في ذلك الليل البارد، علي اختفى، استغرب غيابه طلاب الجامعة في شارع بلس، فتشوا عنه وجدوه ميتاً على درج المطعم. بقيت لسنوات أراه في الشارع وأفكر كيف ينام؟ ولم أر المكان الذي ينام فيه إلا لحظة موته، لم أره في الواقع رأيته في الصورة.

علي مات من الصقيع.

علي قتلته أولغا، وأولغا تجهل من هو علي.

علي أستاذ جامعي في الرياضيات، بل حائز شهادات في الهندسة، إنه لبناني لا بل أردني من أصل فلسطيني، إنه علي العبد لله بل طوني فرسوخ... حكايا وقصص تداولها اللبنانيون إثر وفاته، غير أن الحقيقة هي أنه رجل متشرد، مأواه الرصيف... كان يفترش الأرض في شارع بلس... عصف به الصقيع، خطفت العاصفة الروسيّة حياته مخلفة وراءها حكايات متضاربة.

محطات التلفزيون منشغلة بسقوط الثلوج على المرتفعات المناطق، السيول والأتربة تدخل البيوت في الضواحي، الناس يشتكون الدولة، الوحل يغطي البلاط، وعلي مات على الرصيف قليلون عرفوا من هو. إلا أن وجوده الدائم نسج الروايات الكثيرة حوله. فالبعض قال إنه كان بروفيسوراً في الرياضيات فقد عائلته خلال الحرب الأهلية ومعها رزانة عقله، والبعض الآخر يشيد بثقافة عالية تمتع بها، قربت إليه مثقفي الشارع الذين جالسوه لساعات من دون ملل. قالوا إنه مسيحي واسمه طوني فرسوخ، مكرم ربح صديقي يقول إنه مسلم وكان يناقشه بالقرآن، متعلم لكنه ليس أستاذاً.

علي مشرّد لم يقبل المساعدة من أحد وتقتله العاصفة. كان يردّد العبارات ذاتها من دون أن يفهم أحد مضمون الكلام الذي يقوله. يردّد عبارات غريبة، يستهجن البعض عند سماعها، {فرقة 16} و {العرب كلهم خونة} ويصف مشهدَ أناسٍ يضربونه.

قبل أن أبدأ كتابة سطور هذه الرواية، مات علي الذي يفترض أنه سيكون بطلاً من أبطال الرواية، مات في ذلك اليوم البارد على بلاط بارد في مدينة قاتمة، مات وفي يده سيجارة أخيرة لم تشتعل، ولم تحترق.

كان علي أكثر صموداً مني، مات على الرصيف ولم يرحل من شارع بلس، مات من البرد هناك على الدرج ولم يرحل.

كان علي أكثر قدرة مني في الاحتفاظ بفرديته وحريته، بقينا نعرفه باسمه الأول من دون عائلته، من دون منطقته أو دسكرته.

طوال تلك السنوات التي كنت أرى فيها علي على الرصيف قبالة الجامعة كنت أسأل أين ينام في لياليه، وأين يقضي حاجته، تلك الأمور العصية التي تربكني في الشارع، ربما لهذه الفرادة صارت رواية {الحمامة} لباتريك سوزكيند أهمية بالنسبة إليّ.

طوال السنوات التي رأيت فيها علي، لم أعرف أصله وفصله، بقي رواية أو حكاية، قيل الكثير حوله وبقي غامضاً.

كان علي يحافظ على لوكه كأيقونة للشارع، يرتدي الجينز الواسع والمتسخ ويترك لحيته الشائبة والكثة ويحمل سيجارة ويشرب فنجان قهوة. كان ينفث الدخان ويشرب القهوة أكثر مما يأكل، يجلس على الرصيف ولا يزعج أحداً، مرات قليلة يسأل العابر إذا كانت بحوزته سيجارة أكثر مما يطلب.

علي في تشرده كان أكثر طمأنينة منا نحن الذين نجلس في المقهى نتأمل العابرين كما لو أننا في فيلم سينمائي، كان كثّ اللحية أغبرها، شعره أبيض، وحالته يُرثى لها. تنظر إليه فترثي لحاله، فهو محدودب الظهر، أحنت هامته الأيام والليالي.

  مات علي من دون أن يعرف أحد من أين أتى، ومن هم أهله، وأين كان منزله؟ كان الأكثر غفلة في مدينة تضج بالهويات، وحده اسم علي كان يدل على شيء ما لكنه كان اسماً عارياً.

back to top