فنانان عربيان على اتساع خبرتهما الآن في متحف «التيْت»، في لندن. وهذه التجربة، على ما أذكر، هي الأولى مع المتاحف الفنية الكبرى في المملكة المتحدة. المعرضان استعاديان، يشملان تجربة كل من الفنانيْن كاملة. زرت معرض اللبنانية سلوى روضة شقير (مواليد 1916) مع بدء افتتاحه. دُهشت لغزارة الإنتاج، بين الرسم والنحت، ولتنوع مادة النحت بين الخشب، المعدن، الحجر، الطين المفخور. ودُهشت للجرأة المبكرة في اقتحام عالم التجريد، التي تراه هي في حوار قديم معها عالماً عالميَّ السمة، والذي أراه عالماً غربياً بامتياز. نعم، يمكن للفنان العربي أن ينتفع من التجريد، كما ينتفع من كل تقنية غربية أو شرقية. لكن لا أن ينتسب بصورة تامة إلى رؤية غربية، هي وليد تام للحياة في كل تفاصيلها. إن دراسة شقير في باريس (1948) فرصة رائعة لتلقيح عالمها العربي، الإسلامي بالرؤى والتقنيات الجديدة. لكن الذي حدث أنها، بعد لوحات تشخيصية لا تنم عن مهارة عالية، انسحبت إلى التجريد التام. بعض النقاد يرون أصداء التجريد الإسلامي في تجريدها. والتجريد الإسلامي زخرفي، حروفي وهندسي. وملامح هذه العناصر غائبة تماماً في أعمالها. الجمهور لم يكن واسعاً، لأنه يرغب، من أجل توسيع أفق عالميته، في مزاج جديد عليه، وهو هنا يلتقي بمزاجه ذاته، وبسلعته رُدّت إليه.

Ad

الفنانة الرائدة مازالت تعيش في بيروت التي تحب.

على مقربة من معرضها الشامل معرض شامل آخر للفنان السوداني إبراهيم الصلاحي (مواليد 1930). المزاج الفني هنا يستدير استدارة كاملة باتجاه الجذور. استدرت أنا الآخر بارتياح لفنان عربي، مسلم، إفريقي وعالمي. أحسست بهذه الروافد تغذي موهبة فنية ماهرة. هنا أجد الحرف العربي، والنزعة الرمزية التصوفية، مشرّبة بالبوح السحري للقناع الإفريقي، وشطحات المخيلة السوريالية. وهذا كفيل باستثارة حماستي وحماسة المشاهد الغربي أيضاً.

ولد إبراهيم الصالحي في أم درمان، وشرع في تجربة زخرفة مخطوطات القرآن في مدرسة والده التي يعلم فيها الكتاب الكريم. في الخرطوم درس الفن، بعد أن هجر دراسة الطب. وفي 1954 حصل على منحة لدراسة الفن في بريطانيا. هناك اكتشف البعد الإفريقي في كيانه. أمر اكتشاف الهوية الإفريقية في أوروبا ليس غريباً، فقد حدث هذا مع شخصيات سبقته مثل الشاعرين سنغور وأمي سيزير. بالنسبة للصالحي كان اكتشاف الهوية هذا قد حدث فعلياً بعد عودته إلى السودان عام 1957. لقد حدث أن أقام معرضاً تنعكس فيه تأثيرات المدارس الغربية العديدة، من فنون «حياة صامتة، بورتريت وأجسام عارية»، «وجدت أن معظم الجمهور لم يأتِ في اليوم الأول إلا من أجل المشروبات المنعشة». على حدّ قوله، «بعد يوم الافتتاح الأول لم يأتِ أحد. الجمهور السوداني لم يروا حدثاً كهذا من قبل. وبعد معارض عدة مشابهة غير مشجعة وجدتني أتوقف عن الرسم على مدى سنتين. صرت فيها أتساءل مع نفسي: لمَ لمْ يتقبّل الجمهور أعمالي ويتمتّعوا بها؟».

تساؤل رائع. كان يسهل على غير الصلاحي، ممن حوّلوا «الحداثة» إلى عقيدة لا تتحمل التساؤل، أن يجد لسؤاله أكثر من مبرر جاهز: الجمهور متخلف عن ركب الحداثة مثلاً. أو أنه لمْ يعتد الجديد والبكوري. ولكن الصلاحي عبر تساؤله حلّ إشكالاً كان يمكن أن يُتلف حياته الفنية كلها بيسر. بدأ يبحث عن الحلقة المفقودة، كما يقول في حوار فيديو داخل المعرض، عن العامل الذي يجعل لوحته تتفاعل مع أرواح الناس حوله. وأول ما جذب نباهته الفنية الخط العربي وفنون الزخرفة الإسلامية. كان يجدها في كل مكان: في البيوت، في المكاتب والدكاكين. «بدأت أنقش حروفاً في زوايا لوحتي، تشبه طوابع البريد. معها بدأ الناس يُقبلون عليّ. صرتُ أنشر الكلمات على صفحات الكانفس، فصاروا يقتربون أكثر. وبدأت أتعامل مع الحروف عابثاً علّي أكتشف عبر الهدم معانيها، فاتضح السر لدي. من هذه الشكال الحروفية التي كانت ذات يوم رموزاً تجريدية بدأت تظهر الهيئات الحيوانية، والإنسانية، والنباتية. من هذا كان منطلقي الفني الحقيقي».