كفاح أجيال

نشر في 09-01-2013
آخر تحديث 09-01-2013 | 00:01
 يوسف عبدالله العنيزي    شهد القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هجرات متوالية من العائلات العربية المسيحية في كل من لبنان وسورية، وقد استقرت تلك العائلات في دول أميركا الجنوبية والوسطى وجزر الكاريبي والباهاما حيث تولى بعض أفرادها مناصب عالية، وصل بعضها إلى سدة رئاسة الجمهورية في بعض الدول كالأرجنتين والإكوادور، ووصل البعض الآخر إلى مناصب عالية كأساتذة جامعات ورجال أعمال وغيرها.

في أثناء عملي في العاصمة الفنزويلية كراكاس تعرفت على الصديق العزيز الأستاذ عبدالمسيح الذي يحمل الجنسية الفنزويلية بينما تعيش أغلب عائلته في العاصمة الكوبية هافانا، وقد دعاني مشكوراً لمرافقته في زيارته لعائلته، وعليه فقد شددنا الرحال إلى ذلك البلد الجميل الذي ارتبط اسمه ببعض القيادات والزعامات الثورية في العالم أمثال "غيفارا وفيدل كاسترو" وغيرهم.

غادرنا مطار كراكاس إلى هافانا في رحلة تستمر حوالي ساعتين، ولكن بعد ساعة من الزمن بدأت الطائرة بالهبوط المفاجئ وبشكل غير طبيعي وبسرعة هائلة، وعندها ران الصمت على الركاب ولم تعد تسمع حتى الأنفاس التي انحبست في الصدور في لحظات لا يمكن حسابها بالتوقيت المتعارف عليه، أخذ الجميع يصلي للخالق جل وعلا، كل بطريقته وعقيدته، ففي لحظات الخوف من الموت يتعلق الإنسان بالحياة أكثر ويلتصق بالخالق حتى لو كان بعيداً عنه في حياته "فلا ملجأ من الله إلا إليه".

في تلك اللحظات خطر ببالي مثلث برمودا فنحن الآن في وسطه أو على أطرافه وساورني الشك في أننا سنكون ضيوفاً عند ذلك المثلث، ولعلها فرصة لاكتشاف بعض أسراره، لكن للأسف لن يستطيع أحد أن ينقل تلك الأسرار التي ستختفي معنا في آتون ذلك المثلث الغامض! بعد قليل لا أحد يدري مقداره استقرت الطائرة في وضعها المعتاد وما هي إلا ساعة حتى أعلن قائد الطائرة البدء بالهبوط التدريجي نحو مطار "هافانا" حيث هبطنا، بحفظ الله، عند حاجز الوصول، أعطيت جواز السفر للضابط الذي يغمرك بابتسامته، وبدأ بسيل من الأسئلة عن الكويت، وبعد شرح موجز أجاب بكلمة واحدة فهمت منها أنه استوعب الشرح قائلاً "يعني بترول"!

خرجنا من مبنى المطار حيث وجدنا في الاستقبال أحد موظفي فندق "ناسونال" مع سيارة شيفروليه موديل 1947، وفي الطريق من المطار إلى الفندق أحسست بأننا نسير في متحف مفتوح للسيارات القديمة بكل أحجامها وأنواعها وتاريخ صنعها.

وصلنا إلى الفندق الذي يقع على حافة البحر الكاريبي، وبعد استراحة قصيرة فيه، توجهت مع صاحبي إلى منزل عائلته، وعند مدخل الحديقة الصغيرة أمام المنزل فوجئت بالعم العزيز عبدالمسيح الأب وهو يرحب بنا بلهجته اللبنانية المحببة قائلاً "أهلين وسهلين بالكويت وأهل الكويت"... فظننت أني قد وصلت إلى إحدى ضياع لبنان الحبيب. دخلنا المنزل الصغير وتعرفنا على أفراد العائلة، وأكثر ما يلفت الانتباه "الجدة" التي تجاوزت من العمر التسعين عاماً، وهي تتحرك بخفة وحيوية وابتسامة لا تفارقها حاضرة الذهن متقدة الذكاء... وعند الاستفسار منها عن سني عمرها أخرجت من أعماق الفؤاد زفرة حنين وشوق للوطن ثم تحدثت عن طفولتها، فقد غادرت ضيعتها في لبنان العزيز وهي لم تتجاوز بعد العاشرة من العمر، وكل ما تذكره أشجار التفاح والزيتون ورائحة الأزهار التي يحملها العبير من الوادي إلى سفح الجبل. استقر والدها في كوبا بينما انتشر الركب المرافق في كل دول أميركا الوسطى والجنوبية وجزر الكاريبي والبهاما. وعند الاستفسار من تلك المرأة الرائعة عن سر احتفاظها بشبابها وحيويتها أجابت بعفوية، لا تحمل هموم الدنيا واجعل الابتسامة دائما ترساً يحمي تعب النفس، لا تنظر إلى ما في أيدي الآخرين، بل انظر دائماً إلى ما في قلبك ويدك، وأبدت إعجابها بقول عمر الخيام في "رباعياته":

لا تشغل البال بماضي الزمان           ولا بآتي العيش قبل الأوان

واغنم من الحاضر لذاته                   فليس في طبع الليالي الأمان

كم استمتعت بالجلوس إلى تلك السيدة الفاضلة التي تشعرك بأنك أمام فلسفة صهرتها الحياة، وحملها الزمن من وطنها إلى أقصى الأرض، فلم تهن لها عزيمة ولم تلن لها إرادة ولا يزال الحنين يشدها إلى تلك الضيعة بين أشجار التفاح والزيتون، وكم تشعر بالألم عندما ترى أبناء الوطن يدمرون الوطن بأيديهم: "آه... ليتهم يقاسون بعض ما قاسينا ليعرفوا قيمة أرض الآباء والأجداد أستحلفكم بالله لا تضيعوا الوطن من أجل شعارات زائفة"... ومنّا إلى من يسير وراء أشباح تضمر الشر للكويت وأهلها! ودعاؤنا بأن يحفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.

back to top