مساءلة «الربيع العربي»
من حق الجماهير التي قامت بثورات الربيع العربي على حكامها السابقين في تونس ومصر وليبيا أن تسائل حكامها الجدد: ماذا حققتم من أهداف الثورة؟ من حق شباب هذه الثورات وقد سقط منهم شهداء وجرحى أن يحاكموا المسؤولين الجدد عمّا تم إنجازه!من حق الذين حللوا واستبشروا وعلقوا الآمال العريضة على الربيع أن يتساءلوا: أين هي ثمار الربيع؟ هل تحقق الإصلاح السياسي؟ وهل تحسن الوضع الأمني؟ وهل تطور الوضع الاقتصادي؟ وهل توافرت المعيشة الكريمة للمواطن؟ وهل أصبحت الأوضاع العامة أفضل؟
ثورات الربيع أزالت أنظمة فاسدة مستبدة لكنها لم تنتج بعد بديلاً أفضل، نجحت في شل أيدي الفاسدين وسراق المال العام، وهي تحاكمهم اليوم لكن لم يتحسن الوضع الاقتصادي ولم يقطع دابر الفساد، ولم تتوافر فرص العمل أمام آلاف العاطلين، الحقائق المجسدة على أرض الواقع في دول الربيع منذ تسلم الحكام الجدد المقاليد، تؤكد أن الأوضاع أكثر سوءاً، وهي تزداد سوءاً كل يوم، بل لا تترك مجالاً لكل تفاؤل بالمستقبل.ليبيا التي تحتفل بالذكرى الثانية للثورة ضد القذافي مازالت أوضاعها مضطربة، الميليشيات في تكاثر، و"القاعدة" أنشأت لها ملاذات آمنة شرق ليبيا، وقبائل الجنوب أرست حكماً ذاتياً والأحوال الاقتصادية هشة، وفي تونس يواجه الإسلاميون مستقبلاً قاتماً: الأوضاع متدهورة، والبطالة والبؤس مخيمان، والشارع التونسي في غليان إثر مقتل المعارض شكري بلعيد، ولا تحسّن في الأوضاع الاقتصادية والسياسية، ونساء تونس مستنفرات خشية مساس الإسلاميين بحقوقهن المكتسبة من العهد البورقيبي، وقد ابتدع الحكام الجدد لجان حماية الثورة، وهي أشبه بميليشيات الحرس الثوري التي تتصدى للمعارضة.أما في مصر، فالأحوال ليست بأفضل من أختيها، الأزمة عميقة وشاملة ولا تقتصر على المجال السياسي، بل تشمل الاقتصاد والثقافة والأخلاق، وطبقاً لمحمد شومان الكاتب المصري، تحول الربيع المصري إلى خريف عاصف، وتم إرهاب القضاء والتدخل في شؤون أحكامه ومحاصرة مقاره وفرض نائب عام (غير شرعي) عليه، وهو أمر لم يحصل في تاريخ القضاء المصري من قبل، لكنه حاصل في ظل الربيع المصري برعاية الإسلاميين الجدد.وصف الكاتب المصري وحيد عبدالمجيد مشهد محاصرة "الإخوان" لمقر المحكمة الدستورية العليا لمنع قضاتها من العمل بأنه مشهد "لا سابق له في تاريخ مصر ولا نظير له في أكثر البلاد استبداداً"... وقال "سيظل يوم الثاني من ديسمبر 2012 في ذاكرة التاريخ ضمن الأيام التي تعتبر حالكة الظلام في حياة الشعوب والأمم"... وصدر دستور تمييزي يهمش الأقليات والمرأة ويجعل مرجعيته الأحكام الفقهية المتغيرة، ويعطي لرئيس الدولة صلاحيات مطلقة، وصفه الفقيه الدستوري الكبير د. أحمد كمال أبوالمجد بأنه دستور يصنع فرعوناً جديداً يحكم 85 مليوناً من الأقزام.والأقليات الدينية في مصر اليوم في محنة عظيمة تواجه صنوفاً من التمييز والتهميش والكراهية والعنف، وأما المرأة فقد وصفت السفيرة ميرفت التلاوي رئيسة المجلس القومي للمرأة تشريعات الربيع العربي بأنها رجعية تهدد مكتسبات المرأة المصرية. ارتدادات الربيع خلقت بيئة حاضنة للعنف والتكفير، وشجعت الداعية محمود شعبان أن يفتي عبر قناة "الحافظ" بقتل أعضاء "جبهة الإنقاذ" المعارضة، فشباب الثورة أجهضت أحلامهم وأصبحوا ضحايا للقتل والشتم والتحرش الممنهج، والشارع المصري في غليان: احتجاجات ومظاهرات وحالات عنف وانفلات أمني ومجلس الشورى منشغل بإصدار قانون ينظم المظاهرات ظناً أن غيابه هو المسبب في الحالة المتردية، متجاهلاً مناقشة الأسباب التي دفعت الناس للخروج والاحتجاج والفوضى والتخريب. أما الوضع الاقتصادي فمربك ويدعو إلى التشاؤم وهؤلاء الذين استبشروا بتحسن أوضاعهم أصبحوا اليوم أكثر تشاؤماً، ورغم أن الحكومة المصرية حصلت على 10 مليارات دولار منحاً وقروضاً، لكن لا مردود اقتصادياً ملموس، أما المناخ الاستثماري فطارد أو معاد للاستثمار لا بسبب الأوضاع السياسية والأمنية بل بسبب تخبط الحكومة في قراراتها الاقتصادية وعدم وجود رؤية استثمارية واضحة مطمئنة للمستثمرين. تساءل المحلل الاقتصادي الكويتي عامر التميمي: ما الحصاد الاقتصادي المصري بعد عامين للثورة، وأجاب بأن ثمة تراجعاً واضحاً في الأداء من أبرز شواهده بلوغ سعر صرف الجنيه 6.6 للدولار بخسارة 12% عنه قبل الثورة، كما أن السياحة وهي أهم القطاعات المدرة للإيرادات السيادية تأثرت بالأوضاع وبات كثير من العاملين في القطاع في عداد العاطلين، كما قدر المنتدى الإقليمي حول (اقتصادات الربيع العربي) بالكويت، الخسائر الاقتصادية للربيع بنحو 120 مليار دولار مرشحة للزيادة في ظل تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر وغياب الإصلاحات السياسية والاقتصادية.علّة الوضع الاقتصادي المصري، كما يراها الكاتب الصحافي جهاد الخازن، هي في أن "الأمر ليس مجرد وعود لم تتحقق، بل إن ما شكا منه المصريون من قبل، زاد اليوم سوءاً من الوضع الاقتصادي إلى الانفلات الأمني إلى زحام السير، وكان يمكن لـ"الإخوان" الحاكمين معالجته- بالتوافق لا المغالبة والهيمنة والاستحواذ على مفاصل الدولة كافة ومؤسساتها- ولكن أخذتهم العزة فحاولوا فرض رأي نصف الشعب على نصفه الآخر، وفصَّلوا دستوراً وقوانين للانتخابات على قياسهم وحدهم، ثم عجزوا عن حل الأزمة الاقتصادية لأنهم تصرفوا كهواة، يزيدون الأسعار ثم يتراجعون، يفاوضون صندوق النقد الدولي على قرض من أول شروطه رفض الدعم عن قوت الشعب".في تصوري أن القضية أعمق من ذلك على المستوى الاقتصادي وليست القضية قضية هواة لا يعرفون أبعاد المشكلة الاقتصادية، أتصور أن اقتصادات حكومات الربيع العربي ستعتمد إلى وقت طويل على ما أسميه "اقتصادات التسول"، وهي منهج اقتصادي يقوم على اعتياد واستسهال تسول المنح والإعانات والمساعدات والقروض بهدف إطعام شعوبها وكسب ولائها ورضاها، ضماناً لشراء أصواتها لإعادة انتخاب الأحزاب الحاكمة أي تيارات الإسلام السياسي اليوم، ولكن كل ذلك يتم على حساب جيل المستقبل، هذا الجيل الذي سماه الكاتب الصحافي خالد القشطيني بـ"الجيل الانتحاري" لأنه هو الذي عليه أن يجهد لدرجة الانتحار لسداد هذه القروض الفلكية وفوائدها المتراكمة غداً، بينما يتنعم بها الجيل الحاضر، في تصوري أن هذه الحكومات لن تحقق برامج تنمية وإنتاج وعمل، بل ستستسهل سياسة التوسع في الاقتراض؛ فتشتري حاضرها بمستقبلها. ينقل د. عبدالمنعم سعيد الكاتب المصري المعروف، عن مسؤول خليجي بارز قوله "إنه خلال الـ15 عاماً الأخيرة من حكم بن علي، لم يحدث أن طلبت تونس معونات أو مساعدات اقتصادية من دول الخليج، لكن اليوم لا يمر أسبوع إلا ويمر مسؤول تونسي يطلب العون".أخيراً: يعلل الكاتب الصحافي جورج سمعان، انحراف مسار الربيع العربي في جملة عوامل، أبرزها "الارتجال والهوس بالسلطة وغياب التجربة السياسية والثقافة الديمقراطية وإلغاء الآخر"، ويرى أن أمام الحكام الجدد فرصاً لتصحيح مسار الربيع العربي، وذلك بالتوافق على عقد اجتماعي جديد تشترك فيه كل مكونات المجتمع وأطيافه وأحزابه، والتوافق على دستور متوازن لا تمليه الأكثرية على الأقلية. إن الأحلام الوردية لشباب الثورة ومن تعاطفوا معهم تحولت إلى كوابيس مقلقة، كما يقول صالح القلاب الكاتب الأردني، فهل من مخرج؟!* كاتب قطري