من الذاكرة : بوعيسي
ذَكَرَ أكثر من واحد أنه "صادفه" أكثر من مرة على أكثر من تقاطع طرق وقال أحد الذين شاركوا في "تعليلة" تلك الليلة ،بعد أن ذبَّ ذبةً طويلة من سيجارة "هيشي" يجرح دخانها الزور، :"أنا لا أخافه ولم ترتعش شعرة في جسدي عندما قابلته وجهاً لوجه عند (عراق حنبزا).. لقد حاول أن يرشني بذلك السائل الغريب الذي يخطف العقل ويسلبه..لكنني لم أخَفْ وعندما إنثنيت لألتقط حجراً أضربه به ولَّى هارباً وهو يطلق فرقعة قوية من مؤخرته". كان الإبن يتناول الحمص التي يضع نحو "ثُمنِيَّة" منه في ردن "قضاضته" ،فنظر ،قبل أن يكمل هذا الرجل روايته، إلى والده الذي كان يتابع رواية الراوي بعدم إكتراث وهو يغلُّ دلَّة القهوة بشيء من العصبية في قلب الجمر المتأجج، وغمز (الإبن) بطرف عينه وهو يرسم إبتسامة على شدقه العريض الذي تتدلى منه شفة غليظة وقال بشيء من الهمس والتخابث والمسخرة والإستهزاء :"هَلِّلْ يا أبو ذيب"!!.
لم يُهلِّلْ أبو ذيب ولم يقل يا الله.. وعندما حاول البدء برواية أخرى إختطف الكلام منه أحد الحضور وقال :أما أنا (يا بوعيسى) فقد كان ينتظرني عند مقبرة "حَبْل الصوان".. وكان ذلك في ليلة باردة هواؤها شرقي لاسع.. لقد إرتبكت فعلاً عندما نهض وإتجه نحوي بسرعة العاصفة المفاجئة.. حاولت أن أصرخ.. لكن صوتي لم يخرج من صدري.. حاولت أن أمدَّ يدي في جيبي لأتناول منها زناد القدحة والصوان لكنني شعرت بأن يدي مُتيبِّسة.. حاولت الهرب لأتسلق شجرة بطم تنجضع على حافة المقبرة وكأنها تحتضن بعض القبور الدارسة لكنني لم أقْدِر.. شعرت أن قلبي أصبح في حلقي وأحسست أنني إنتهيت لكنني فجأة سمعت حداء رجال ينحدرون من قرية "صَرُّوت" في إتجاهي.. لقد وقف الملعون ،بعد أن أصبح عني على بعد نحو مترين عندما سمع الحداء الذي سمعته، وضغط على أسنانه ضغطة قوية ثم رشني بسائله العجيب قبل أن يبتعد هارباً. ..كثرت الروايات وإنتقل الكلام من رجل إلى رجل ،بينما النسوة لا يملكن إلا الإستمرار بالإصغاء إلى هذه الروايات التي سمعنها عشرات المرات، وهنَّ يتداوَرْن غليوناً من الفخار الأسود تقوده إلى الأفواه ،التي تتلقفه بشغف، عصا طويلة من جذوع الدُّفْلى المثقوبة من الطرف إلى..الطرف.. وقال أحدهم وهو يوجه كلامه إلى (أبو عيسى) الرجل الصامت ،الذي كان يقوم بين فينة وأخرى ،كدلالة على نفاذ صبره، بإقحام دلَّة القهوة في الجمر المتأجج :أما انا فإنني أعرف أين يختبئ هذا الملعون في ساعات النهار ومن الفجر إلى النّجر..إنه يقطن كهفاً يفضي إلى مَزْخَبةٍ بعيدة الغور تقع على السفح الشمالي لرجم "المُشْويشْ". أخذ أبو عيسى ،الذي لا يعرف المزاح ولا الهزار والمشهور في القرية كلها بقوته وشجاعته وصدقه وأمانته، الأمر على محمل الجد وطرح على هذا المتحدث الأخير عدداً من الأسئلة وهمس إلى قريب له كان يجلس بالقرب منه لا يشاركه أياً من صفاته :"غداً عندما يحل المساء تذهب معي إلى حيث يعيش هذا اللعين الذي طال بحثي عنه ولم أعثر عليه حتى الآن.. أحضر معك حبلاً قوياً و"هوشانية" مشحوذة الحد.. وقدُّوماً من قبيل الإحتياط". قَبِل هذا القريب التكليف على مضض.. ومع حلول ساعات المساء المتأخرة وصلا إلى الكهف في رجم "المُشْويشْ" الذي يفضي إلى مزخبة بعيدة الغور.. تناول أبو عيسى الحبل ،المجدول جدلاً محكماً وقوياً من قريبه الذي يرافقه في هذه المهمة الصعبة، وربط أحد طرفيه حول خصر شجرة بلوط كانت تبدو كشبح يحرس مغارة هذا الملعون في تلك الليلة الممطرة الشديدة الرياح وأبقى الطرف الآخر في يده هو.. وأخذ يحشر جسمه القوي الجهم في المغارة مبتدئاً بقدميه وصدره إلى الأعلى وظهره إلى الأسفل.. وبعد أن زحف بصعوبة.. وزحف وزحف.. توقف هنيهة ليلتقط أنفاسه ولأنه يعرف قريبه ورفيقه معرفة أكيدة وأراد أن يشجعه على الإستمرار في المرابطة عند فوهة المغارة وعدم الهروب والعودة إلى القرية فقد ناداه بصوت مجلجل :ها.. هل أنت خائف.. إبق في مكانك وسأعود إليك مع هذا اللعين الذي من عادته الخروج كل ليلة للبحث عن الرجال وها أنا آتيه إلى وكره لأبحث عنه. زحف.. ثم زحف نحو عمق "المزخبة" وعندما شعر بأن أنفاس هذا اللعين برائحتها الكريهة باتت تصل إلى ما وراء أذنيه هو أخذ يقول ،وهو يحاول الإستدارة ليصبح رأسه إلى الأمام ورجليه إلى الخلف، :"ها.. يا أبا عامر ها أنا في بيتك.. أنت تبحث عن الرجال وأنا أبحث عنك".. ثم مد يده اليسرى وإلتقط عرقوب هذا اللعين وجذبه بكل قوة.. ثم إخترق العرقوب بالهوشانية التي كان يحملها بيده اليمنى.. وأدخل الحبل في الشرخ الذي أحدثته الهوشانية في عرقوب (أبو عامر). زمجر الضبع زمجرة قوية ،أخافت الرفيق الذي كان ينتظر مرتعداً ومهدود الحيل عند فوهة الكهف، لكنها لم تهز ولو شعرة واحدة في جسد (أبو عيسى) الذي بدأ يدفع أبو عامر من الخلف وحفزه إلى الخروج بنخزه برأس الهوشانية في المنطقة الرقيقة بين نهايات وركية.. ودفع أبو عيسى.. ودفع وهو يتمتم :أخرج أيها اللعين.. أخرج ستكون مفارق الطرق بعد اليوم هادئة.. وخرج أبو عامر ،الذي كان ينتظر الرجال عند مفارق الطرق ليرشهم ببوله الحارق النفاث ليسلب عقولهم ويقودهم إلى مغارته هذه ليأكل حتى عظامهم.. لقد خرج كالقط المذعور وعندما حاول الهرب لم يستطع أن يحرر نفسه ،من الحبل المربوط حول جذوع الشجرة المنتصبة عند فوهة المغارة كالشبح، تناول أبو عيسى "جفْته" وأطلق على رأس الضبع رصاصة الرحمة وعاد به مقسوماً إلى نصفين نصف يحمله هو والقسم الآخر يحمله قريبه الذي لم يتوقف جسده عن الإرتعاش إلاَّ بعد أن رأى ذلك الوحش الكاسر على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة.