يحافظ المصريون على حس الدعابة في أحلك الأوقات عادة؛ أو هذا على الأقل ما يفعلونه راهناً، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تشاهد أنماط تفاعل قياسية في ظل الأحداث التي تلت فض تجمعي "رابعة العدوية" و"النهضة".

Ad

تقول إحدى "التغريدات" على "تويتر": "أثناء قيامنا بإحراق إحدى الكنائس بطريقة سلمية، ودون إيذاء أي صليبي، فاجأتنا قوات السيسي الخسيس بقنابل مسيلة للدموع... حسبنا الله ونعم الوكيل".

تحاول تلك "التغريدة" أن تندد بموقف غربي شائن حيال الأعمال الإرهابية التي يرتكبها تنظيم "الإخوان" في مصر راهناً، وهي تأتي تحت "هاشتاغ" رئيس عنوانه Obama mother has no hair أي "أم أوباما بلا شعر".

أدخل الناشطون تعديلات على صورة أوباما، فأضافوا له "لحية"، ليصبح قريب الشبه بأسامة بن لادن، وكالوا له شتائم عديدة ووجهوا له اتهامات وانتقادات شديدة الحدة.

تتزايد ثقة المصريين بجيشهم الوطني في تلك الأوقات حالكة السواد، وترتفع شعبية الفريق السيسي قائد الجيش إلى مستويات قياسية بين قطاعات الجمهور المختلفة، وتتردى صورة الولايات المتحدة إلى درجة كبيرة. لا يستطيع المصريون فهم السلوك الغربي إزاء محنتهم الراهنة، وبات قطاع مؤثر بينهم يعتقد أن ثمة "مؤامرة غربية تستخدم تنظيم (الإخوان) من أجل تفكيك الدولة وإشعال حرب أهلية في البلاد".

يعرف المصريون أن تنظيم "الإخوان" أشعل النيران في عشرات الكنائس، وقتل أقباطاً على الهوية، ودمر واقتحم عشرات المباني الحكومية والمنشآت الخاصة، وقتل عشرات الضباط والجنود والمواطنين، وقطع مئات الطرق، وخرب مرافق، وأطلق النيران بعشوائية على المدنيين، وخطف آخرين واحتجزهم وعذّبهم وقتلهم.

يعرف المصريون أن تنظيم "الإخوان" حرض أتباعه على القتل والاستشهاد والتخريب وإشعال الفتنة الطائفية، ويعرفون أيضاً أنه يستخدم أنصاره كدروع بشرية، لإيقاع أكبر عدد من الجثث بينهم بشكل يمكنه من بناء "مظلوميته" ومن ثم تصليب مواقفه التفاوضية مع الحكومة المصرية.

ويعرف المصريون أن كل هذه الممارسات الإجرامية من التنظيم واضحة للغاية ومصورة وموثقة وثابتة، ولكنهم يعرفون أيضاً أن الولايات المتحدة، إدارة وإعلاماً، لا ترى تلك الممارسات مثلها مثل كثير من دول العالم الغربي.

يدرك المصريون أن أوباما وإدارته ساندا حكم مرسي "الفاشل العاجز والمتهم بالخيانة العظمى"، وأنه كان يعلم بدكتاتوريته واستبداده وتدني كفاءته، وأنه كان يعرف أن مرسي ليس حاكماً بقدر ما كان موظفاً تنفيذياً مأموراً عند مكتب الإرشاد، وأنه تغاضى عن كل ذلك وقدم دعماً غير مسبوق لحكمه. ويستغرب المصريون لمواصلة أوباما تجاهل انتفاضتهم الثورية في 30 يونيو و26 يوليو الفائتين، ومحاولاته المستميتة للضغط على قيادتهم المتمتعة بدعمهم وتأييدهم، لابتزازها لمصلحة حلفائه "الإخوان"، ولذلك فهم يشنون الهجمات الكلامية عليه، وينددون بسفيرته، ويطالبون بطردها، بل يطالبون بقطع المعونة الأميركية عن بلادهم وأحياناً بقطع العلاقات الثنائية نفسها.

تتدافع مشاعر متضاربة عديدة في صدور المصريين في تلك الأوقات الحاسمة، لكن نوعاً من مشاعر الفخر الوطني بدأ يبرز بشدة، ومعه التفاف واضح حول الفريق السيسي، وبموازاته شعور قوي بالإحباط من الموقف الغربي، وبالاستنكار الشديد للموقف الأميركي.

طوال الأسابيع الستة الماضية واصلت جماعة "الإخوان" خلطاً مسيئاً للدين بالسياسة، وحرضت ضد الوحدة الوطنية، وسعت إلى تفكيك الجيش، ومارست القتل والتعذيب بحق مواطنين أبرياء، وازدرت الأديان، واستخدمت الأطفال في نزاع خطر، وأحرزت السلاح واستخدمته وخزنته، ورعت العمليات الإرهابية في سيناء ضد الجيش الوطني وباركتها، ورفعت أعلام القاعدة السوداء، واستخدمت خطاباً مأفوناً ومهووساً، معتمداً على أسوأ التكنيكات الدعائية، ومستنداً إلى بعض اعتوارات "التدين الشعبي المصري"، ومنتمياً إلى حقب أخرى في التاريخ، للحفاظ على حشدها الهش واجتذاب الأنصار، لكن الغرب لم ير كل هذا.. أو لم يكن يريد أن يراه.

لا يقتصر تفاعل النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي على استخدام النكات التي تنال من المواقف الغربية وتندد بأوباما، لكن اتجاهاً عريضاً واضحاً في هذا التفاعل بات مخصصاً لتداول مقاطع مستعادة من خطب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. تركز المقاطع المستعادة في تلك الأيام بالذات على ثلاثة محاور رئيسة؛ أولها تعامل عبدالناصر مع الغرب بندية وتكافؤ وكبرياء وطني، وثانيها تقييم واضح من جانبه لجماعة "الإخوان" يصفها بالانتهازية والرياء، وثالثها حضه المصريين على الاعتماد على الذات وتحقيق التنمية المستقلة التي يتم توزيع عوائدها بعدالة.

لماذا يستدعي المصريون هذه المقاطع الآن؟ ولماذا تزداد صور عبدالناصر في كل مكان رغم أن الرجل رحل عن عالمنا قبل أكثر من أربعة عقود؟ ولماذا يترافق ذلك مع شعور بالمرارة من المواقف الغربية، ومع التفاف واضح حول السيسي في آن؟

لماذا وصفت رئاسة الجمهورية تصريحات ماكين، التي سمت ما جرى في 30 يونيو "انقلاباً"، بـ"الخرقاء"؟ ولماذا ندد قائد الجيش بأوباما لأنه "أدار ظهره للمصريين"؟ ولماذا باتت السفيرة باترسون شخصاً غير مرغوب فيه؟ ولماذا قرر مجلس الدفاع الوطني وضع حد للزيارات الغربية لقادة "الإخوان" في السجون، وأعلن من جانب واحد نهاية الجهود الرامية إلى "إقناع" الجماعة بضرورة الوصول إلى حل سياسي؟ ولماذا يرفض المصريون المعونة الأميركية الآن ويتمنون بصدق الاستغناء عنها؟

على مدى العقود الأربعة الماضية لم يكن من الممكن أبداً أن تسمع أن الرئاسة المصرية وصفت سياسياً أميركياً نافذاً بـ"الأخرق"، أو تجد هذا الإصرار والتحدي على ضرورة الانعتاق من "المعونة"، أو تلحظ هذه الصلابة في التفاوض مع الغربيين من المفاوض الوطني، أو ينزل عشرات الملايين إلى الشوارع لدعم إرادة وطنية.

لقد كان موقف الولايات المتحدة ودول غربية رئيسة أخرى منحازاً لمصلحة تنظيم "الإخوان" بشكل سافر، وهو الانحياز الذي يأتي على حساب المصلحة الوطنية المصرية ويعرض الدولة للخطر، لأنه يجردها من الحق في استخدام القوة المشروعة للدفاع عن نفسها ومواطنيها في مواجهة إرهاب غاشم.

وبموازاة ذلك الموقف الغربي الشائن، يتصاعد الشعور الوطني المصري، ويتبلور الفخر الجمعي في ظل التوحد لمواجهة إرهاب "الإخوان"، وتزيد شعبية السيسي، الذي بدأ كثيرون يربطون بينه وبين الزعيم الراحل عبدالناصر، بينما تتصاعد الدعوات للاستغناء عن المعونة، وطرد السفير الأميركي، وعقد علاقات قوية مع روسيا والصين.

يبدو أن الغرب أفرط في محاولاته لمساندة "الإخوان" في مصر، وهو إفراط لم يؤد حتى الآن سوى إلى تعزيز فرص خلق ناصرية جديدة، ستكون مخلصة للاستقلال الوطني، والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستقلة، ورغم أنها ستكون أكثر رشداً وأقل قابلية للاستدراج، فإنها، على الأرجح، لن تكون على غرار الديمقراطية التي يسعى الغربيون إلى تسويقها في بلدان المنطقة.

* كاتب مصري