خلال محادثات أخيرة مع خبراء في شؤون الشرق الأوسط في الحكومة الأميركية وفي المنطقة، برزت مجموعة من المحاور المقلقة. أولاً، ثمة شعور متنامٍ بأنه في ظل غياب المبادرة الكبرى، التي تفتقر راهناً إلى القائد والمفهوم والموارد، قد يصمد نظام بشار الأسد لسنوات أو ربما عقد من الزمن. ثانياً، سواء صمد الأسد أو سقط في وقت قريب، ستبقى سورية جرحا لا يلتئم أو حتى ساحة حرب عنيفة تعمها الفوضى. وأخيرا، حتى لو عُقدت تسوية أنهت الصراع، إن سقطت سورية بيد المتطرفين، ستكون انعكاسات ذلك واسعة وستتردد في المنطقة بأسرها، ممتدة من سورية باتجاه لبنان، الأردن، العراق، إسرائيل، والأراضي الفلسطينية.

Ad

إذا أضفنا كل ذلك إلى الشعور بعدم الارتياح تجاه نتائج انتفاضات "الربيع العربي" في تونس، ليبيا، ومصر والقلق حيال أنظمة الخليج العربية (هذا إن لم نأتِ على ذكر أفغانستان وإفريقيا السوداء)، نحصل على سيناريو محتمل يشمل سنوات من الانتفاضات المتقلبة من مالي وصولا إلى باكستان، تتخللها فترات وجيزة من الاستقرار. لا شك أن هذا السيناريو ليس أكيداً، ولكن من المحتمل أن ننتقل من القلق بشأن الدول الفاشلة إلى التعامل مع الوقائع المرة في منطقة فاشلة. صرنا على الأرجح في مرحلة قد تُعتبر ذات يوم عقودا من الصراعات المتداخلة؛ لهذا السبب ولأن معظم القوى الكبرى في العالم تخشى هذه النتيجة والكلفة المحتملة التي قد تفرضها عليها، ينمو اليوم الشعور بأن الولايات المتحدة والدول الأخرى، بدل أن تركز على النتائج الديمقراطية لهذه الانتفاضة، ستكتفي بجيل جديد من السياسيين المستبدين في مختلف أرجاء الشرق الأوسط الكبير. ولا شك أن استعداد الولايات المتحدة للتعاون مع "شركاء" مثيرين للريبة، مثل الرئيس الأفغاني حامد كرزاي ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وترددها في انتقاد قادة يتبعون قيما مشكوكاً فيها علانية، مثل الرئيس المصري محمود مرسي، يشكلان إشارة إلى هذا الميل المتنامي.

على نحو مماثل، يعتبر هؤلاء المحللون تردد الولايات المتحدة في تبني سياسات قد تؤثر حقاً في النتائج في بعض هذه البلدان المهددة عاملا بالغ الأهمية في هذه الحقبة المقبلة من عدم الاستقرار المطول والتزايد المحتمل في رغبتنا في دعم السياسيين المستبدين. وتشكل سورية مرة أخرى خير مثال. فرغم أن الولايات المتحدة صعدت في الأسابيع الأخيرة لهجتها وتدخلها الهامشي في الوضع في هذا البلد، لا يزال لامتناع واشنطن عن اتخاذ أي خطوات فاعلة تأثير كبير في الوضع على الأرض.

لا شك أن إرسال 200 جندي إلى الأردن، والالتزام بتأمين المزيد من نظارات الرؤية الليلية، والطلب من وكالة الاستخبارات المركزية البحث في المعارضة على أمل العثور على قائد يمكننا التعامل معه كلها خطوات إيجابية، إلا أن تأثيراتها تبقى محدودة، ويتضح أنها مجرد تدابير رمزية أو جزئية من خلال مقالات مثل ما ورد في عدد 23 أبريل من نيويورك تايمز. فقد أشارت هذه الصحيفة مرة أخرى إلى أن الإسرائيليين (على غرار كثيرين) يؤكدون أن الأسد استخدم أسلحة كيماوية في بلده، متجاوزاً بذلك "الخط الأحمر" الذي رسمه الرئيس الأميركي باراك أوباما.

عندما حُدد هذا الخط الأحمر، لم يخطر في بال أحد أن رد الولايات المتحدة المحتمل قد يكون إرسال المزيد من السترات الواقية، ولكن بما أن التغيير الأبرز في سلوك الولايات المتحدة يقتصر على استعمال لائحة أشد حزماً من العبارات والنعوت، تُرسل هذه الدولة رسالة غير مدروسة: لا توازي أفعال الولايات المتحدة أقوالها. وهذه بالتأكيد رسالة خطرة تُرسَل إلى مجموعات خطرة. صحيح أن رسم الخطوط الحمراء تصرف خطر، بيد أن أوباما يتجه اليوم إلى إظهار أن تجاهلها أشد خطورة.

قد يدعي البعض أن أجهزة الاستخبارات الأميركية ما زالت تقيم الأدلة على تنفيذ الأسد اعتداءات كيماوية، وربما تتخذ الولايات المتحدة خطوات أكثر فاعلية في الكواليس لا يعلم العامة بها، لكن الواقع يُظهر أن الوضع يزداد سوءاً، علاوة على ذلك، أدت جهود الولايات المتحدة إلى تفويض آخرين للقيام بدور بناء إلى نتائج مختلطة. فيُتهم البعض (مثل حكومة قطر وإلى حد ما تركيا) بدعم المتطرفين، في حين سلك آخرون (مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) درباً مختلفاً، إلا أنهم يعتقدون أن التدخل الدولي الفاعل يبقى مستحيلاً في ظل غياب القيادة الأميركية القوية.

تكمن المشكل في أن رغبة الشعب الأميركي في تعزيز التدخل في المنطقة شبه غائبة، فقد تحول العراق وأفغانستان إلى كارثتَين مكلفتَين، ويعاني الأميركيون أيضا مشاكل خطيرة في بلادهم. كذلك دفع اللجوء إلى موارد طاقة جديدة في الولايات المتحدة الأميركيين إلى الشعور بأنهم أفضل حالا إن نأوا بأنفسهم عن مشاكل المنطقة. فضلاً عن ذلك، لا يملك حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيون سياسة خارجية منظمة يمكنهم التحدث عنها، يعربون عن رغبة أقل من الأميركيين في التدخل على الأرض في المنطقة، ويعانون مشاكل أكبر محلياً، بالإضافة إلى ذلك، يشكل الروس دوماً عقبة. أما الصينيون، فمستعدون للتدخل على الهامش فحسب، مؤكدين أنهم ليسوا حاضرين بعد لتأدية الدور الرئيس في وضع مماثل. ويتراوح اللاعبون المحليون بين السيئ في إيران والضعيف نسبياً أو المعرض للخطر، فضلاً عمن يملك دوافع مثيرة للريبة أو كل ما تقدم أعلاه في الدول المعتدلة. ولا يبدو أن أيا من هذه العوامل سيتبدل قريباً.

إذن، نواجه منطقة تفتقر إلى قوى الاستقرار الإقليمية والخارجية الفاعلة. في الوقت عينه، برهنت سورية أن الولايات المتحدة، وأوروبا، ودولاً أخرى قد تتباطأ في اتخاذ خطوات مهمة، إلا أن المجموعات المتطرفة التي تسعى إلى استغلال هذا الوضع تعمل بسرعة لتملأ هذا الفراغ، فتشير التقديرات إلى أن عديد "جبهة النصرة" في سورية، التي أعلنت ولاءها لتنظيم "القاعدة"، يتخطى اليوم 12 ألفا، مع تدفق المقاتلين الأجانب من كل زاوية من أوروبا والمنطقة المجاورة.

إذن، نقف راهناً أمام خيار صعب: الفوضى الطويلة الأمد أو الحكام المستبدين، ولا نحتاج إلى عالِم رياضيات لحل هذه المعضلة، ففي ظل المعادلة الراهنة، تبدو الديمقراطية والأمل بإصلاح سياسي حقيقي في المنطقة بعيدين جداً.

ديفيد روثكوبف | David Rothkopf