ما الفرق، في التعرف على حياة الشاعر، بين قراءة قصائده وقراءة سيرته؟ وما الفرق بين هذين المصدرين وبين مصدر ثالث توفره السينما؟

Ad

هذه الفنون، القصيدة والسيرة والسينما، تختلف جوهرياً عن بعض. ولذا أعتقد أن الفرق كامن في طبيعة كل واحد منها. القصيدة مرآة مهشمة لحياة الشاعر الداخلية، ولا تعكس صورته بموضوعية. على القارئ أن يلملم عبر شظاياها الصورة التي تسعى بصيرته إلى النظر إليها بفضول. كتاب السيرة غير مؤتمن، لكنه يمنح فرصاً رائعة للتعرف على كيان استثنائي، رغم واقعية وجوده كإنسان. السينما تقودك مُرغماً إلى قلب المعترك، إلى قلب الدراما التي تهشم مرآة الشاعر الداخلية. وتملؤها بسمة التراجيديا.

تأملتُ ذلك وأنا أشاهد خمسة أفلام عن خمسة شعراء، أعرف نتاجهم حق المعرفة: أليوت، لوركا، دِلان توماس، تيدهيوز، غينسبيرغ. ومدار الأفلام لا يفلت من محور الحب الملتاع بفعل الخيبة. خمسة قلوب أحرقتها عاطفة أو غريزة حب متألق، سرعان ما يتحول إلى رماد ما ان يتجسد في كيان حي. وكأن للشاعر ملاكاً للحب لا هوية أرضية له.

الشاعر الأميركي أليوت يلتقي فيفيان سنةَ يقرر الإقامة في إنكلترا عام 1915. حين يقرر الزواج منها يعترض الأب لأن الشعر لن يوفر ما يكفي لعائلة تنتسب لطبقة برجوازية. وحين يجتاز العقبة يكتشف أن فيفيان، وهي مأوى حبه، مُمتَحنة بعلل عقلية ونفسية لا شفاء منها. فيلم المخرج بريان جيلبرت («توم وفيف»، 1989) يُدخلنا في معراج الألم للشاعر الرقيق، الكتيم، داخل بيت الزوجية بالغ التعاسة. حتى يُلجئه هذا «لأرض الخراب»، وللكاثوليكية عن غير إرادة. آخر ما يتراءى لنا من أليوت في اللحظات الأخيرة من الفيلم وجهه المستسلم وراء قضبان حديدية لباب المصعد.

الشاعر الإنكليزي تيدهيوز، ابن الجيل الثاني بعد أليوت، ولكن مسحة التراجيديا في تطلعه القلبي لا تختلف كثيراً. المخرجة كريستين هجَفز نوّعت على الحال بفيلم «سيلفيا» (2003) الذي يبدأ بلقاء الشاعرين الشابين في كمبرج في 1956، وزواجهما المتوثب على طريقة الخمسينيين والستينيين. هيوز لا يتمتع بوداعة أليوت ولا ببصيرته باتجاه الميتافيزيقيا. بل هو سبّار غور في أسرار الطبيعة الجهمة. روح الحيوان المفعمة بالغرائز. هذه الروح تكتشف في سيليفيابلاث شاعرة، لكن بطيات هستيرية تقود حياة العائلة إلى الهاوية، ثم إلى انتحارها عام 1963.

في عام 1922 يفد الشاب سلفادور دالي (18 عاماً) إلى مدريد، ليلتقي الشابين لوركا وبانويل. أعظم ثلاث مواهب إسبانية للشعر والرسم والسينما. لكن التراجيديا لن تمهل لوركا الفرِح أبداً. تزرع في جسده وروحه حباً لدالي لا منفذ له. المخرج بول ماريسون يتوسع في هذا الحب على هواه، ويختار للفيلم (2008) عنوان لوحة لدالي «رماد قليل»، حيث يمضي الأخير قدماً باتجاه الشهرة والثروة، في حين يختنق الأول بلوعة الحب من طرف واحد، حتى تتلقفه رصاصات القتلة.

على الطرف النقيض يقدم لنا المخرج جون ميْبوري في فيلمه «حافة الحب» (2008) الشاعر الويلزي الماجن دِلان توماس، بين زوجته كيْتلِن ماكنمارا والزوجين كِلِّك. عصبة لا تستيقظ من دوامة الخمرة وسط حمى الحرب العالمية الثانية. دِلان توماس يفتن زوجة صديقه الذي يغادر للحرب، ويزوّر شهادة ضده حين يعود. خمرة ورداءة تعانق موهبة شعرية لا تهدأ. دراما ثقيلة الظلال تقود الموهبة إلى موتها المبكر.

ثم يقتحم شاعر البيتز الأميركي غينس بيرغ السينما عبر قصيدته «عواء»، للمخرج روب أبستاين (2010). سيرة حياة جيل شعري برمته لم يُصغ أحد لعوائه إلا أبناؤه. ولم يصغوا هم عن نباهة تامة، فقد أنهكت آذانهم المخدرات وفورة اللذائذ الحسية والموت المبكر. فيلم لا يمنح، شأن الأفلام الأخرى، ثقة بأن مسرات الإنسان ومسرات الشعر يمكن أن يصحبا بعضاً، يداً بيد على جادة واحدة.