يعاني المصريون الآن في مناطق مختلفة من البلاد انقطاعاً متكرراً في التيار الكهربائي؛ وهو الانقطاع الذي أرجعته وزارة البترول، في بيان رسمي، إلى "عدم قدرة الحكومة على توفير السيولة المالية اللازمة لشراء الوقود السائل لتشغيل محطات الكهرباء".

Ad

ستكون تلك مشكلة كبيرة عندما تأتي شهور الصيف التي يزيد فيها استهلاك الكهرباء في مصر بدرجة كبيرة، خصوصاً أن الوزارة قالت إن "مراكب الوقود موجودة في موانئ مصر، لكن عدم القدرة على دفع الأثمان يجعلها تحجم عن ضخ ما تحمله لمواجهة حاجات المستهلكين المصريين".

تتفاقم أزمة السولار والبنزين في مصر باطراد، وتصطف السيارات في طوابير طويلة، في مناطق مختلفة، أمام محطات الوقود في ظل عجز واحد في الإمدادات، وحركة تهريب نشطة، وسوق سوداء مزدهرة؛ وهو الأمر الذي ينتج مشاحنات ومشاجرات حادة، يسقط في بعضها قتلى وجرحى.

ليس هذا هو الإشكال الوحيد؛ فهناك نقص كبير في الاحتياطي الاستراتيجي من العملة الصعبة، انعكس بوضوح على قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها وتدبير المبالغ المطلوبة لتمويل شراء السلع الأساسية. وبعدما كان الاحتياطي النقدي المصري يبلغ نحو 36 مليار دولار، في عام 2010، راح يتراجع منذ اندلاع ثورة يناير 2011، ليفقد نحو 60% من قيمته، مسجلاً 13.5 مليار دولار في شهر فبراير الماضي.

وفي غضون ذلك، يرتفع سعر الدولار مقابل العملة المصرية باطراد، وبعد سنوات من استقرار أسعار الصرف عند معدلات مقبولة، بات سعر الصرف مزدوجاً، ونشطت السوق السوداء لتجارة العملة مرة أخرى، وتم تحديد حد أقصى لقيمة ما يمكن أن يسحبه أي شخص من حسابه الدولاري بما لا يتجاوز عشرة آلاف دولار في اليوم الواحد.

تعتقد الحكومة أن العجز في الميزانية سيصل إلى 12.3% بحلول نهاية العام المالي الجاري في شهر يونيو المقبل، وتأمل في خفض هذا العجز ليصبح في حدود 10.9% من الناتج المحلي الإجمالي، في حال نجحت في ضبط الإنفاق وإجراء إصلاحات اقتصادية، ومن المعروف طبعاً أن تجاوز حاجز الـ10% في عجز أي ميزانية ينذر بمخاطر كبيرة.

يؤدي تفاقم عجز الميزانية، وتراجع حجم الاحتياطي النقدي إلى تخفيض التصنيف الائتماني لمصر، وهو الأمر الذي يقلل عدد الموردين الراغبين في توريد سلعهم وانتظار تسديد الأثمان في مواعيد مقبلة متفق عليها، ولذلك فإن عدداً قليلاً من هؤلاء الموردين يوافق على التوريد بالأجل في ظل زيادة المخاطر وتراجع الثقة، لكنه يورد بضاعته بأسعار أعلى من قيمتها الحقيقية.

اتفقت مؤسستان عالميتان معتبرتان في تقييم التصنيف الائتماني للدول على الاستمرار في تخفيض تصنيف مصر باطراد بسبب "ضعف النمو الاقتصادي، والتدهور الكبير في القطاعات المالية، وتراجع الاحتياطي النقدي، وعدم الاستقرار السياسي، وارتفاع عجز الموازنة".

فقد تراجع تصنيف مصر وفقاً لمؤسستي "استاندرد أند بورز" و"موديز" بشكل واضح؛ والأخطر من ذلك أن الأولى خفضت تصنيفها طويل الأجل لديون مصر الخارجية بالنقد الأجنبي إلى "سالب بي بي" من "بي بي"، وخفضت تصنيفها للديون المحلية طويلة الأجل إلى "بي بي" من "زائد بي بي".

تتفق المؤسستان على وضع نظرة مستقبلية "سلبية" للتصنيف المصري، بسبب "ارتفاع مستوى المخاطر السياسية" والتراجع المطرد في قطاعات الاقتصاد المختلفة، وإحجام المستثمرين، وضعف الثقة.

في الأسبوع الماضي أقدم البنك المركزي المصري على رفع أسعار الفائدة بواقع نصف نقطة مئوية لمواجهة ما وصفه خبراء بـ"الارتفاع الكبير في الأسعار وتفاقم ظاهرة الدولرة"، وهو الأمر الذي تجاوبت معه على الفور بنوك رئيسة عدة.

يرى الخبراء أن البنك المركزي أقدم على تلك الخطوة إثر "ارتفاع معدل التضخم السنوي الى 7.68%، والزيادة الكبيرة في أسعار معظم السلع، وصعود الدولار من مستوى 6.04 جنيه، الى 6.82 جنيه، وفق الأسعار الرسمية، وإلى نحو 7.30 جنيه في السوق السوداء، خلال الشهور الثلاثة الماضية".

يقول الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إن معدل التضخم في شهر يناير الماضي زاد بنسبة 1.8% مقارنة بشهر ديسمبر السابق عليه، وبنسبة 6.6% مقارنة بالشهر نفسه من عام 2012. ويشكو الاتحاد العام للغرف التجارية من أن القرارات التي اتخذتها الحكومة لزيادة الجمارك على بعض السلع فاقمت أزمة ارتفاع الأسعار، ويصف تلك القرارات بأنها "ترجمة حقيقية للسياسات الاقتصادية الفاشلة والمتخبطة والعشوائية، وستسهم في تحجيم الطلب المحلي".

ينتظر المصريون زيارة أخرى جديدة من بعثة صندوق النقد الدولي خلال أيام قليلة لإعادة التفاوض بشأن قرض قيمته 4.8 مليارات دولار، يبدو حتى هذه اللحظة أنه الأمل الوحيد المتبقي أمام الحكومة للتعامل مع الكارثة الاقتصادية التي تكتمل أركانها يوماً بعد يوم.

سيؤّمن الحصول على قرض الصندوق فرصاً لخروج الحكومة من الوضع العاثر الراهن، خصوصاً أنه سيفتح الباب أمام مستثمرين ومانحين ومقرضين دوليين آخرين لتمويل مشروعات أو تقديم قروض ومساعدات للحكومة المرتبكة، مما يخفف الضغوط على الاقتصاد المترنح. لكن الأمر لا يبدو سهلاً على الإطلاق؛ إذ يشترط صندوق النقد تحقيق "إصلاحات" معينة حتى يمنح القرض المطلوب لمصر؛ وهي "الإصلاحات" التي تنطوي على مخاطر كبيرة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، حيث تترافق مع تخفيض الدعم على السلع الأساسية وصولاً إلى تحرير الأسعار، وهو أمر لم يفكر مبارك أبداً في الإقدام عليه.

يبدو أن الحكومة ستكون مجبرة على تجرع "سم إصلاحات" صندوق النقد الدولي، خصوصاً بعد إحجام العديد من الدول العربية الغنية عن تمويل العجز المصري الراهن بسبب مخاوف من "المد الإخواني".

ورغم أن قطر قدمت مساعدات ملموسة لمصر منذ أطاحت ثورة يناير خصمها مبارك وأتت بحلفائها "الإخوان المسلمين" إلى السلطة، وهي المساعدات التي تمثلت بـ"قروض ميسرة وودائع في البنك المركزي"، فإن تلك الدولة الغنية أظهرت الرغبة الواضحة في التوقف عن منح مثل تلك المساعدات؛ إذ رد وزير ماليتها يوسف كمال، قبل أيام قليلة، على سؤال في شأن مساعدات قطرية جديدة لمصر بقوله: "ليس بعد".

يمكن فهم تأثير قيام ثورة مثل ثورة يناير في الأداء الاقتصادي لبلد مثل مصر، ويمكن توقع وجود خسائر اقتصادية موجعة ومستحقة يدفعها أي شعب أراد أن يتحول من الدكتاتورية إلى الديمقراطية ومن الطغيان إلى الحرية، لكن ما يعانيه الاقتصاد المصري راهناً زاد عن حجم المتوقع والمقبول، وينذر بمخاطر أفدح من أي قدرة على التحمل.

تنذر الأوضاع الاقتصادية المصرية الراهنة باندلاع ما يمكن وصفه بـ "ثورة الجياع"، وهي الثورة التي حذر منها كثيرون، ويبدو أن إرهاصاتها بدأت بالظهور.

لا يظهر "الإخوان المسلمون" أي قدر من الانتباه لتفاقم الأوضاع الاقتصادية السيئة، ويتحدث الرئيس والحكومة باستمرار عن "تقدم في الأداء"، ويعجز النظام عن اتخاذ خطوات أكثر انفتاحاً وإيجابية تجاه المعارضة الوطنية؛ وهو الأمر الذي يعزز الانسداد السياسي الراهن، وينعكس سلبياً على الأوضاع الاقتصادية.

إذا لم تنتبه الحكومة المصرية وجماعة "الإخوان المسلمين" إلى أن الأوضاع الاقتصادية تنذر بكوارث، وأن السياسات المتخذة للتعاطي معها قاصرة وعاجزة، وأن هناك ضرورة لبناء توافق وطني عبر تقديم تنازلات سياسية ملموسة من المؤسسة الحاكمة، والاستعانة بخبراء اقتصاديين قادرين على إدارة الأزمة الراهنة، فإن الخطر القادم سيكون عارماً ومخيفاً.

* كاتب مصري