زينت قاعة العرض في مركز «الهناجر للفنون» في القاهرة أكثر من 25 لوحة، اتسمت بالأداء السوريالي وإطلاق الأفكار الكامنة في وعي الفنان، وقدراته التعبيرية في تشكيل فضاء لوحاته بألوان متوهجة، ودلالتها الموحية بهدير الموج البشري في الميادين التي انطلقت منها الثورة المصرية.

Ad

وبدت لوحات صالح محمد صالح متمردة على فكرة المرئي ومحاكاة الواقع، وامتزجت أفكاره عن الفن السوريالي بتطبيقات مغايرة لمنجز فنانين قدامى، والخروج من عباءة الغموض الملتبس إلى وضوح الرؤية وجسارتها في كشف الطاقات الإنسانية الكامنة، واستجابة المضمون الفكري وجماليات التشكيل لذائقة النقاد والجمهور.

جسدت اللوحات رؤية الفنان لثورة 25 يناير، وتفاعله مع أحداثها قبل عامين، وتداعياتها الراهنة، وتمازجت الألوان في فضاء من التفاصيل الإنسانية، ورموز موحية بالجسارة والأمل وتلاحم النسيج الوطني، وتدفق الجموع إلى مسارات الضوء وبدايات زمن يتشكل على نحو مغاير لأزمنة فائتة.

عبر إيقاع أسطوري، تتشكل لوحات صالح ووعيه بموروثه الثقافي، وانحيازه إلى ثيمات الفن الشعبي فوق جدران المعابد الفرعونية، وملامح الوجوه بقسماتها المتفردة، وإقصائه حالات الاغتراب التي باعدت بين بعض الفنانين وخصوصية الهوية، فضلاً عن تطويعه الفن السوريالي ليجسد تفاصيل الثورة المصرية، واستدعاء رموز الفنانين الأسلاف كالأسد ورأس الطائر وطاقة النور والأمومة.

شكلت سطوح اللوحات بانوراما حية لتاريخ ينهض من إغفاءة طويلة، ويؤرخ لربيع ثوري مفعم بالأمل في غد أفضل، وانعكاسات الحالة السياسية المتردية التي تعيشها مصر بعد الثورة وآثارها الخطرة على النسيج الوطني وإصابته بحالة من التمزق والغضب والاستقطاب.

أسطورة سيزيف

تشكل لوحات صالح وحدة كلية لفلسفة الثورة، تتواصل لغتها التشكيلية من لوحة إلى أخرى، ومن بينها لوحتان تجسدان أسطورة سيزيف برؤية مغايرة لرحلة الصعود والهبوط الأبدية، حيث عمد الفنان إلى استلهام طاقة جديدة لتحطيم الصخور والتحرر من القيود، والانطلاق نحو طاقة النور والخروج من النفق المظلم.

وتكتمل ملامح الرمز في لوحات الفنان صالح محمد، واستدعائه عبر لوحتين لفكرة الأسد وما يحمله في الذاكرة الإنسانية من معاني الجسارة، ويتجاوز به الرمزية الفردية إلى آفاق الجموع الزاحفة نحو تحقيق غايتها في العدل والحرية وعالم أفضل.

كذلك احتفى صالح برمز الأمومة، وسطوع فكرة الاحتواء، وفي لوحة بالغة الدلالة تتشكل ملامح الأم – الوطن، وتواصل الأبناء لمحو الظلام والانطلاق إلى طريق الحلم والتغيير، والتشبث بقيم الانتماء، وبدت خبرة الفنان في تطويع الرمز وحركة فرشاة ناعمة تسطر بدايات الفرح وانكشاف طاقة ضوء لا ينتهي.

وتكتمل غايات رمز الأمومة في تاج مطرز بوحدة النسيج الوطني «الهلال والصليب» وخلفية المآذن والكنائس، وانهمار الألوان بنشيد الهدير، ودفء يشعله اللون الأحمر، والصراع بين مناطق الظل والضوء وحركة الجموع الزاحفة في فضاء الجسد الأمومي، والتدرج من الغموض الشفيف إلى يقين بصري يعادل الحدث التاريخي بمعالجة أسطورية وثيقة الصلة بخصوصية الهوية المصرية خصوصاً والعربية عموماً.

 

هدير النغم

تتجلى في لوحة «عازف الكمان» مفردات سوريالية، ويتشكل جسد العازف بلغة النحت، وخبرة الفنان في هذا المجال، وتمرده على الشكل التقليدي باستحضار رأس طائر وجسد يتمدد في انسيابية، وذروة الانفعال بالعزف، وهدير النغم اللامرئي.

ترتكز فكرة المعرض على مشروع فني طموح، واستشراف للمستقبل، ومساءلة واقع ما بعد ثورة يناير، ومن بينها لوحات جسدت حالة القلق ومحاولات الاستقطاب والترقب لإنهاء المرحلة الانتقالية.

 ويزاوج صالح بين شرف المضمون وقيم جمالية ليجسد فلسفة الثورة، ورؤيته الإبداعية لمعطيات واقع متجدد، وإيقاعات متلاحقة، ويعبر عن أحلامه الخاصة في الانفلات من قبضة الكوابيس، والتشبث بيقين استكمال أهداف الثورة.      

وفي لوحة تقارب فن البورتريه ولا تتخلى عن النهج السوريالي، يطالعنا وجه منهك بصرخات روح قلقة، وجسد مثقل بالتعب، ويعمد الفنان إلى رمزية اللون القاتم، ويتجاوز فكرة الاستسلام لواقع سيزيفي إلى  التمرد الإنساني بالصراخ، ومقاومة القبح والشر واغتيال العدالة.

أفكار ملونة

تتابع لوحات صالح محمد كعالم من الرموز والأفكار الملونة، ويسطع أداؤه السوريالي في لوحة كائنات تتحرر من القيود، ويستثير وجدان المتلقي بطاقات شعورية من خلال التباين اللوني بين كائن يتقدم الصفوف، ويشارف على الانتهاء من نزع قيوده، وبين آخرين في بداية الارتحال إلى عالم الحرية.

يبقى أن الأعمال المعروضة تميزت بالثراء الفني، والتنوع بين مجال التصوير والطباعة، ويقدم الفنان أسلوباً تشكيلياً جديداً للمرة الأولى، مازجاً بين الديجيتال والعمل اليدوي في فن التصوير، وتعدد الأدوات والخامات، وإدخال تأثيرات الضوء وتقنيات الطباعة باستخدام الكمبيوتر.

يذكر أن الفنان صالح محمد صالح من أبرز الوجوه التشكيلية في مصر، وقدم الكثير من الأعمال في مجال التصوير والنحت، وله مشاركات مصرية ودولية عدة في معارض خاصة ومعارض جماعية، وينتمي أسلوبه الفني إلى المدرسة السوريالية التي تميز بها ونال عنها جوائز وتكريمات في محافل عربية ودولية.