في حكم قضائي بارز من محكمة الجنايات برئاسة المستشار يوسف اللحدان وعضوية القاضيين محمد جعفر ومحمد بهمن، انتصرت فيه المحكمة إلى الضمانات القانونية التي كفلها القانون للمتهمين في القضايا الجزائية، وقضت بتقرير الامتناع عن عقاب المتهم الاول وبسحب رخصة قيادته وببراءة المتهمين الثاني والثالثة من تهم حيازة مواد مخدرة «حشيش ومورفين ومؤثرات عقلية» لبطلان أمر القبض والتفتيش بحقهما، لافتة في حكمها إلى أن ما بني على باطل من أمر القبض يعد باطلا، ولا يضير العدالة إفلات مجرم من العقاب بقدر ما يضيرها الافتئات على حقوق الناس وحرياتهم والقبض عليهم وتفتيشهم بدون وجه حق.

Ad

وقالت المحكمة في حيثيات حكمها إنها تشير بداية إلى أنه لا يجوز أن تُبنى إدانة صحيحة على دليل باطل في القانون، وأن تقدير مشروعية الدليل هو من صميم اختصاص محكمة الموضوع، ولا يصح النعي عليها – وهي في سبيل ممارسة حقها في التقدير – بأنها تجاوزت سلطتها، إذ ان في ذلك ما يجر في النهاية إلى توقيع العقاب على بريء، وهو أمر يجافي العدالة وتتأذى منه الجماعة مما يتحتم معه إطلاق يد القاضي الجزائي في تقدير سلامة الدليل وقوته دون قيد في ما عدا الأحوال المستثناة قانونًا.

وكانت النيابة العامة قد وجهت إلى ثلاثة متهمين أن الاول حاز وأحرز مواد مخدرة (الهيروين والحشيش والمورفين) ومؤثرات عقلية (الامفيتامين)، وكان ذلك بقصد التعاطي دون أن يثبت أنه قد رُخص له بذلك قانونا، وأنه قاد مركبةً تحت تأثير المخدرات والمؤثرات العقلية، بينما وجهت إلى المتهمين الثاني والثالثة أنهما حازا واحرزا مادتين مخدرتين (الحشيش والمورفين) بقصد التعاطي، كما حازت وأحرزت المتهمة الثالثة مادتين مخدرتين (الهيروين ومؤثرات عقلية) بقصد التعاطي.

وقائع القضية

وتتحصل وقائع القضية في ما قرره ضابط الدورية في محافظة حولي بأنه في حوالي الساعة الثانية من ليل يوم الواقعة، وأثناء تجواله الأمني في دورية الشرطة بمنطقة السالمية مع الشاهد الثاني، أبصرا المتهم الأول وهو يركب سيارته المتوقفة أمام إحدى البقالات التي كان يجلس بها المتهمان الثاني والثالثة، وما إن لاحظ وجود دورية الشرطة حتى بدت عليه علامات الارتباك وحاول مغادرة المكان بسرعة إلا أنهما استوقفاه وطلبا منه أوراقه الثبوتية، فعاد وترجل من سيارته وسلمهما إثبات شخصيته، وبمناقشته – هو والمتهمان الثاني والثالثة اللذان كانا معه – تبين أنهم جميعًا في حالة غير طبيعية.

 وأضاف الشاهد أنهما طلبا من المتهمين الأول والثاني إخراج ما في جيوبهما ومن المتهمة الثالثة إخراج ما في حقيبتها اليدوية ووضعه أمام دورية الشرطة، فأخرج المتهم الأول كيسين من النايلون الشفاف يحتويان على مسحوق بيجي اللون مشتبه به، وأخرج المتهم الثاني كيسين من النايلون الشفاف يحتوي أولهما على محلول الملح وثانيهما على قرصين مشتبه بهما، بينما أخرجت المتهمة الثالثة كيسا من النايلون الشفاف يحتوي على قرص مشتبه به وعدد (16) حقنة بلاستيكية، وبمواجهة المتهمين بالمضبوطات أقروا بحيازتها وإحرازها بقصد التعاطي.

حالة غير طبيعية

وقالت المحكمة: «الثابت للمحكمة أن رجلي الشرطة لم يلقيا القبض على المتهم الأول ولم يطلبا منه إخراج ما في جيوبه – والذي يُعد ضربًا من ضروب التفتيش – إلا بعدما تلاحظ لهما أنه كان يقود سيارته وهو في حالة غير طبيعية، إذ انه كان مثقل اللسان ولا يستطيع السيطرة على توازنه ووقوفه، الأمر الذي تتوافر به حالة الجريمة المشهودة باعتبار أن المظاهر الخارجية المار ذكرها تقطع بارتكابه جريمة قيادة مركبة آلية تحت تأثير المشروبات المسكرة أو المخدرات أو المؤثرات العقلية أو أية مادة أخرى تؤثر في قوى الشخص الطبيعية، وهو ما يبيح القبض عليه طبقًا لنص المادة (44) من المرسوم بقانون رقم 67 لسنة 1976 بشأن المرور.

 وأضافت انه «وإذ كان من المستقر عليه أنه كلما كان القبض صحيحًا كان التفتيش الذي يأتي تبعًا له صحيحًا، الأمر الذي تكون معه الإجراءات التي اتخذها رجلا الشرطة في مواجهة المتهم الأول صحيحةً ومبنيةً على تقدير سائغ وسليم تسوغه النصوص القانونية.

وأوضحت المحكمة أنها تطمئن إلى أدلة الثبوت المتمثلة في شهادة رجلي الامن وكذلك تقريري الإدارة العامة للأدلة الجنائية الخاصين بفحص المضبوطات وتحليل عينة بول المتهم الأول، وذلك لسلامة مأخذ هذه الأدلة، وخلوها من أية شائبة، وتساندها مع بعضها البعض، وكفايتها مضمونًا ومؤدى، وحيث إنه في مقام التفريد القضائي للعقوبة، فإن المادة (81) من قانون الجزاء تنص على أنه «إذا اتُهم شخص بجريمة تستوجب الحكم عليه بالحبس، جاز للمحكمة – إذا رأت من أخلاقه أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها جريمته أو تفاهة هذه الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى الإجرام – أن تقرر الامتناع عن النطق بالعقاب.

عقوبة تكميلية

وقالت المحكمة في حكمها «لما كانت وقد أدانت المحكمة المتهم الأول عن جنحة قيادة مركبة آلية تحت تأثير المخدرات والمؤثرات العقلية، ومن ثم فإنها تقضي عليه بالعقوبة التكميلية الوجوبية المنصوص عليها في المادة (38) من المرسوم بقانون رقم 67 لسنة 1976 بشأن المرور وهي عقوبة سحب رخصة القيادة».

وقالت عن الاتهام المسند إلى المتهمين الثاني والثالثة، فإنه من المقرر أن مؤدى ما تنص عليه المادة (43) والمواد من (53) إلى (57) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية أن أي قيد على الحرية الشخصية بوصفها حقًا طبيعيًا من حقوق الإنسان – يستوي في ذلك أن يكون القيد قبضًا أو تفتيشًا – لا يجوز إلا في حالات التلبس باعتبارها جرائم مشهودة، أو بإذن من النيابة العامة، أو في إحدى الحالات التي وردت في القانون على سبيل الحصر، كما إنه من المقرر أن تسليم المتهم إصبعًا من مخدر الحشيش وأقراصًا من المؤثرات العقلية للضابط بناءً على أمره له بإخراج ما معه يقطع بأن تخليه عنها لم يكن اختياريًا، وإنما كان انصياعًا لأمر الضابط، ومن ثم فإن ما قام به الأخير يكون قد تم في غير الحالات التي يصرح بها القانون، ومن شأن ذلك بطلان إجراءات القبض على المتهم وتفتيشه.

الانصياع للشرطة

وقالت المحكمة ان الثابت لها أن المتهمين الثاني والثالثة واللذين كانا برفقة المتهم الأول دون أن تفصح الأوراق عن أن أيا منهما قاد السيارة – لم يخرجا ما بحوزتهما إلا انصياعًا لأمر رجلي الشرطة، إذ طلبا من المتهم الثاني إخراج ما في جيوبه ومن المتهمة الثالثة إخراج ما في حقيبتها اليدوية، فتبين أنهما يحوزان ويحرزان مواد مخدرة ومؤثرة عقليًا، الأمر الذي يُستفاد منه بطلان القبض والتفتيش الواقع عليهما لأنهما لم يكونا في حالة تلبس أو في إحدى الحالات التي تجيز لرجال الشرطة القبض عليهما بدون إذن من النيابة العامة والمنصوص عليها – على سبيل الحصر – في المواد من (53) إلى (57) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية، ولا ينال من ذلك القول بأن علامات الارتباك كانت ظاهرةً عليهما أو أنهما كانا بحالة غير طبيعية.

وأضافت ان هاتين الحالتين لا تبيحان التعرض لهما عن طريق القبض والتفتيش خلافًا لحالة المتهم الأول وظروفه سالفة البيان باعتباره قائد السيارة.

وبينت المحكمة قائلة ان «القاعدة في القانون أن ما بُني على باطل فهو باطل، فإن بطلان القبض على المتهمين الثاني والثالثة وتفتيشهما يستطيل إلى كل دليل مستمد من هذين الإجراءين الباطلين، فلا يُعتد – من بعد – بشهادة شاهدي الثبوت ضدهما لاسيما وأنها تتضمن إخبارًا منهما عن أمر ارتكباه بالمخالفة للقانون، كما لا يُعتد بتقارير الإدارة العامة للأدلة الجنائية الخاصة بفحص المضبوطات وتحليل عينتي بولهما لتفرعها عن القبض والتفتيش الباطلين قانونًا.

لا دليل

وقالت ان الأوراق قد خلت من أي دليل صحيح يمكن التعويل عليه في إدانة المتهمين الثاني والثالثة لاسيما أنهما أنكرا ما أُسند إليهما من اتهام أمام النيابة العامة والمحكمة، وكان من المسلم به أنه لا يضير العدالة إفلات مجرم من العقاب بقدر ما يضيرها الافتئات على حريات الناس، والقبض عليهم وتفتيشهم بدون وجه حق، ومن ثم تقضي المحكمة ببراءة المتهمين الثاني والثالثة مما أُسند إليهما من اتهام عملاً بنص المادة (172/1) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية.