يعتقد الكثير من المصريين أن وصول "الإخوان" إلى السلطة كان أمراً محسوماً في أي انتخابات عامة تتمتع بقدر من النزاهة في أعقاب إطاحة حكم مبارك الاستبدادي، ويعتقد أغلب هؤلاء أن استمرار "الإخوان" في الحكم لن يكون متاحاً إلا في حال قاموا بتزوير الانتخابات أو امتنعوا عن إجرائها.

Ad

يتحدث كثيرون في مصر عن موعد 30 يونيو الجاري، باعتباره بداية النهاية لحكم الرئيس مرسي، الذي وصل إلى موقعه بانتخابات لم يطح بنزاهتها تماماً، رغم بعض التشكيك الجاد في نتائجها، لكن الرئيس "الإخواني"، وفق هؤلاء، فقد الكثير من شرعيته، لأنه لم يقدم، على مدى نحو عام من ولايته، أي ذرائع تدفع المصريين من خارج جماعته وأنصارها لقبول استمراره.

لقد أتم مرسي شهره الحادي عشر في الحكم في وقت تشهد فيه البلاد أسوأ حالاتها على الإطلاق. يقول مثقفون ومفكرون وسياسيون كبار إن الأوضاع التي وصلت إليها مصر "أكثر تدنياً من تلك التي عرفتها في أعقاب هزيمة يونيو 1967"، ويحذر هؤلاء من "فوضى" أو "ثورة جياع"، تأتي في أعقاب ثورة نبيلة اتسمت بدرجة عالية من السلمية وتوحد الهدف، وانتهت بمنظر خلاب دعا كبار قادة العالم للإشادة بها والحض على التعلم منها.

بعد أحد عشر شهراً من حكم مرسي تبدو البلاد كسيارة معطوبة متهالكة على رأس منحدر زلق، في وقت يتصارع فيه ركابها صراعاً حذراً في ما بينهم، وهو الصراع الذي تتخلله أحياناً لكمات واشتباكات. وعلى مقود السيارة يجلس الشخص الوحيد الذي يحمل رخصة قيادة صالحة، لكنه للأسف ينظر للخلف وليس للإمام، والأدهى من ذلك أن ثمة شخصاً يجلس على كل كتف من كتفيه، وينازعه القيادة. المشكلة أيضاً أن الثلاثة على المقود لا يريدون إشراك أحد معهم في محاولة السيطرة على السيارة المندفعة، بل إنهم حتى لا يمانعون في أن تهبط إلى قاع المنحدر، طالما أن أحداً غيرهم لن يسيطر عليها.

ولذلك، فقد واصل الاحتياطي النقدي للبلاد النزيف المطرد، ليصل إلى أدنى مستوى له منذ سنوات، كما تدهور سعر العملة الوطنية تدهوراً حاداً أمام الدولار الأميركي، وتراجعت أنشطة السياحة والصناعة، وزاد عدد الشركات التي أعلنت إفلاسها والمصانع التي أغلقت أبوابها وسرحت عمالها.

تزيد معدلات البطالة بشكل مزعج، في وقت تتصاعد فيه معدلات التضخم أيضاً، ويبقى كل هذا محتملاً باستثناء الأزمات الحادة في إنتاج الكهرباء وتوزيعها، وهي الأزمات التي زاد تأثيرها مع ارتفاع درجة الحرارة في شهور الصيف وزيادة الاستهلاك.

تنقطع الكهرباء في أحياء عديدة وفي أوقات ممتدة في الكثير من مناطق الجمهورية، وقبل ثلاثة أيام كانت صحف الصباح تتحدث بتلقائية وبلا انزعاج عن عملية جراحية أجريت لسيدة ستينية على ضوء هاتف خلوي لأن الكهرباء انقطعت لساعات عن المستشفى دون وجود سولار يمكن أن يستخدم لتشغيل المولدات.

أزمة السولار تترك السيارات رابضة في انتظار الحصول على حصتها لكيلومترات ممتدة حول محطات الوقود، وهو أمر يفاقم بدوره من أزمة المرور الخانقة، لكن الجديد حدث في نهاية الأسبوع الماضي، إذ طالت الأزمة أنواعاً من البنزين تعتمد عليها سيارات الأجرة وأخرى يعتمد عليها منسوبو الطبقة الوسطى.

فإذا أضيف إلى المشهد السابق ما هو معروف عن تدني الأجور وصعوبة تدبير النفقات في ظل تصاعد الأسعار المطرد إضافة إلى الانفلات الأمني الذي لا يبقي للمصريين الكثير من الأمل في استعادة زخم النشاط الاقتصادي قريباً، لعرفنا أن الأوضاع مأساوية بامتياز.

لكن المصريين شعب صبور، وقد تحملوا كثيراً ظروفاً صعبة في فترات من تاريخهم، وربما يراهن البعض على صبرهم، أو هذا على الأقل ما حاول الرئيس أن يبديه في حوار أجراه نهاية الأسبوع الماضي مع صحيفة "الأهرام" الرسمية، حيث اعتذر للشعب، وأعرب عن تقديره لـ"تحمله وصبره على هذه المشكلات الطارئة".

يمكن للمصريين أن يصبروا على انقطاع الكهرباء، وأن يتحملوا حرارة الصيف اللاهبة، وأن يتقاتلوا على لترات البنزين والسولار في الشوارع، وأن يتصارعوا للحصول على نصيبهم من الخبز المدعم الذي لا يكفي حاجتهم العادلة، وأن يتحايلوا على الارتفاع المطرد في الأسعار، وأن يتحملوا بقاء أبنائهم عاطلين بلا وظائف، وأن يوفقوا أوضاعهم لاستيعاب حالة الانفلات الأمني المزمنة، وأن يتغاضوا عن الانهيار الحاد في الخدمات والمرافق العامة، وأن يتعايشوا مع تلال القمامة التي تملأ الشوارع، لكن كيف يستطيعون ذلك من دون أن يكون هناك أي وعد بالخلاص أو أمل.

لا يعترف الرئيس بأنه لا يمتلك الخبرة أو الكفاءة اللازمة للتصدي للمشكلات الحادة التي تواجهها مصر، ولا يقدم للمصريين سوى وعود مخدرة ومحاولات للاستدانة من مقرضين كثيرين، ولا يكف عن محاولات "أخونة" الدولة عبر زرع عضو في الجماعة في كل مفصل من مفاصلها، بغض النظر عن كفاءته وملاءمته للموقع الذي يحتله.

سيمكن للمصريين أن يتعاملوا مع كل تلك المشكلات، وأن يخففوا من أثرها شيئاً فشيئاً، وسيمكنهم أيضاً أن يوقعوا على "استمارات تمرد"، تجاوباً مع الحملة التي أطلقها شباب لسحب الثقة من مرسي بحلول 30 يونيو الجاري، وهي الحملة التي قال المسؤولون عنها إنها جمعت نحو سبعة ملايين توقيع حتى الآن، واستناداً إلى ذلك، فإنهم يخططون، مع قوى وطنية أخرى، لفعاليات ضخمة في هذا اليوم، ويتعهدون بأن تكون تلك الفعاليات بداية لـ"استرداد الثورة" من "الإخوان"، الذين قاموا بسرقتها بحسب هؤلاء الشباب ومعظم القوى المدنية المعارضة.

لكن ثمة شيء لم يتم الانتباه إليه هنا؟

فقد أصاب "الإخوان" الدولة المصرية بخسائر استراتيجية فادحة سيكون من الصعب جداً علاج آثارها أو تعويضها.

أولاً: يمكن القول إن الدولة المصرية، بأجهزتها الأمنية والسيادية، لم تعد تسيطر على سيناء خصوصاً بعد حادثي مقتل الجنود في رفح في رمضان الماضي، وخطف الجنود في العريش في الشهر الماضي، وهما الحادثان اللذان لم يتم تحديد المسؤول عنهما حتى اللحظة أو معاقبته، وفي غضون ذلك أيضاً تستمر الأنفاق الرابطة بين سيناء وغزة في العمل، في ظل رفض "حماس" القاطع لإغلاقها أو إغراقها، وتراخي مرسي في التجاوب مع مطالب الجيش للقضاء عليها.

ثانياً: فقدت مصر رصيداً استراتيجياً من العلاقات الخارجية المميزة والمثمرة مع كل من الكويت والإمارات والسعودية، وهي العلاقات التي طالما كانت ركناً أساسياً من أركان السياسة الخارجية والتنمية في مصر.

ثالثاً: باتت مصر تتجه إلى أن تصبح "دولة ولاية فقيه سنية" بعد إقرار الدستور الممسوخ في ديسمبر من العام الماضي، بما انطوى عليه من مواد تضع القرار السياسي في قبضة "علماء دين"، والسماح بممارسة السياسة على أساس ديني، وبعد الاتجاه لإقرار تشريع يتيح استخدام الشعارات الدينية في الانتخابات السياسية.

رابعاً: أصبحت مصر على شفا خسارة فادحة تتمثل بفقدان أحقيتها في حصتها التاريخية في مياه النيل بعد إدارة كارثية وهزلية من جانب الرئيس مرسي ومستشاريه لأزمة "سد النهضة" مع أثيوبيا.

خامساً: دولة المؤسسات التي عرفتها مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر على يد محمد علي باتت في طريقها للتفكك، بعد الضربات المتواصلة من الرئاسة والسلطة التشريعة وجماعة "الإخوان" وحلفائها في اليمين المتشدد لمؤسسات الجيش والقضاء والإعلام والثقافة.

المشاكل التي تواجهها مصر تحت حكم "الإخوان" ليست هامشية، ولا تتعلق بمخاطر وخسائر طارئة سيمكن تعويضها بعد زوال حكمهم، ولكنها مشاكل تتعلق بخسائر استراتيجية منيت بها الدولة المصرية، وهي خسائر سيصعب جداً تداركها، وسوف يدفع ثمنها أكثر من جيل.

* كاتب مصري