تتطلّب عمليّة فهم وتحليل وسبر عمق العمل الجويسيّ- وقتًا لا يربطه محور فاصل متواصل يبدأ في نقطة وينتهي في نقطة أخرى. وإنّما يستلزم الأمر وقتًا دائريًّا لولبيًّا يمرّ عبر اختلالات الأفكار الحائرة والمضطربة في أعماله النثريّة- وذلك لقدرته على جمع ما لا يُجمع في ساحة بيته الأدبيّ الخلفيّة- ألا وهو الواقع بكلّ فوضاه وثرثراته واختزالاته ونفسيّات أبطاله المبتورة الموصولة بالواقع.

Ad

كتب جويس الأشعار الغنائيّة، وحتّى أنّه جمعها في دفتر كتب على ظهر غلافه: {أمزجة}. وقد احتوى الكتاب على قرابة خمسين أو ستين قصيدة من تأليف جويس، اختفت جميعها، إلى جانب ست ترجمات من اللاتينية والفرنسية.

لم يكتب جويس الشّعر كثيرًا، لكنّه طرق هذا الباب، وباستثناء المجموعتين الشّعريّتين {موسيقى الحجرة} و{أشعار رخيصة}، كَتَب جويس مجموعة كبيرة من الشّعر الساخر أحياناً أو الشعر الذي يتميّز بروح الدعابة لا يعرفها القارئ العام وذلك بحُكم ندرة نشرها وندرة ترجمتها. بالإضافة إلى خوضه ساحة الشّعر، لم يفلت النثر التنظيري والفني والسيريّ من بين يديه، فكَتَب {التجليات}  و{جياكومو جويس}.

موسيقى الحجرة هي أول عمل يُنشر لجويس، وأولّ مجموعة شعرية يُصدرها. والغريب أن جويس كتب هذه المجموعة قبل أن ينشر مجموعته القصصية {إيرلنديون من دبلن} ورواياته {صورة للفنان شابًا}

و{يوليسيس} و{فينيجانز ويك} بسنوات. يمكن القول إن بصمته كشاعر سبقت بصمته كناثر، وإن تزامن نشر القصائد وبعض القصص في الصحف والمجلات قبل أن تنشر أعماله المذكورة.

صوت وحيد

 تتكوّن المجموعة من 36 قصيدة، يغلب عليها الطابع الرومانطيقيّ، وينفرد فيها صوت الشاعر وحيدًا في البراري والطبيعة متغنيًا في الحبّ والحبيبة. كتب جويس الأشعار بين الأعوام 1901-1906. الظّاهر في قصائد هذه المجموعة قدرة جويس على الذهاب في أقصى الاتجاه المعاكس لثوريّته وتجديده في مجال النثر، حيث تظهر الغنائيّة، والحبّ وحالة الانسجام مع الذات ومع الطبيعة، والإيقاع الموسيقيّ، أي مع كلّ ما يثور عليه جويس في نثره. يمكن القول إنّ شعر جويس هو بحث عن الذّات الأولى- المروّضة والمحافِظة والنفس المطمئنّة إلى نزعاتها الفكريّة البدائيّة. يُثبت جويس من خلال شعره ونثره قدرته على الدّمج بين الفوضى والتجديد وبين العذوبة والثبات، وبهذا يمكن القول إنّها محاولة لموازنة هذا الصراع بين الصّخب وبين عذوبة الهدوء والمصالحة مع الخارج.

أطلق جويس {موسيقى الحجرة} عنوانًا لهذه المجموعة بطريقة عشوائيّة لعلّه قد ندم عليها لاحقًا. فقد كان في سهرة له مع أحد أصدقائه في بيت سيّدة أرملة قامت لتقضي حاجتها في مبولة حجرة النوم chamber pot ولّما فرغت السيّدة من حاجتها أطلقت صوتًا يعبّر عن راحتها، فألهمت الشاعر بعنوان المجموعة. أما بالنسبة إلى قصائد {أشعار رخيصة} فهي عبارة عن مجموعة مكوّنة من ثلاث عشرة قصيدة، نشرت في عام 1927، وقد تمّ جمع هذه القصائد في الوقت الذي كان فيه جويس منهمكًا في كتابة {يوليسس}. وقد كتب جويس قصائد المجموعة في اثنتي عشرة سنة امتدّت من عام 1912 وحتّى عام 1924. يغلب على هذه القصائد الطّابع الذّاتي والسيريّ وتمسّ مواضيع عاطفيّة ووجدانيّة تعكس حالة جويس على مدار سنوات. وعلى رّغم أن قصائد المجموعة لم تنجح في جذب النقاد، إلاّ انّها عبّرت بصدق وقوّة عن عواطف جويس وقت تأليفها. وقد تمّ تبنّيها موسيقيًا كما حصل مع قصائد {موسيقى الحجرة}.

تُشابه قصائد هذه المجموعة قصائد مجموعة {موسيقى الحجرة} من حيث مواضيع - الحب، والندم، والخسارة، وما إلى ذلك مع أقل غنائيّة. ولكن يطرأ تحوّل أو تحسّن على لغة هذه المجموعة وتتلاءم أكثر مع الطابع اللغويّ لجويس مع غلبة الطابع القاتم والتشاؤمي على قصائد المجموعة. وتُبرز هذه المجموعة قدرة جويس العظيمة على خلق الألفاظ المحدثة من خلال تركيب الكلمات أو المزج بين الكلمات ونحت تراكيب لغوية جديدة أو ما يُسمّى بـ .Neologism

 أمّا عن {المحكمة المقدّسة} و{غاز من موقد} فهما قصيدتان تحويان على جرعة كبيرة من السخرية الموجّهة تجاه الكنيسة الكاثوليكيّة ومحاكم التفتيش وشعراء النهضة الأيرلندية والناشرين ودور النشر.

ففي تناقض صارخ مع المثالية والعاطفية للأدباء الذين يسعون إلى إحياء التقاليد الأيرلندية، يقدّم جويس صورة أكثر حقيقية للواقع، مفترضًا دور الكاتب النزيه الذي يهدف إلى فضح النفاق الذي رآه في الأوساط الأدبية في دبلن.

أوتارٌ في الأرض والجوّ

تهبُ للموسيقى عذوبة;

أوتارٌ بمحاذاة النهر حيث

يحتشدُ الصفصاف.

ثمّة موسيقى على طول النّهر

حيث الحبّ يهيمُ هناك،

أزهارٌ شاحبة على معطفه،

أوراقٌ داكنة على شعره.

يعزف برقّة،

برأسٍ ينحني للموسيقى،

وأصابع شاردةٍ

فوق المعزف.

        ***

يتحوّل الشّفق من أرجوانيّ

إلى أزرقَ موغلٍ في العُمق

يلفّ المصباحُ بوهجٍ أخضرَ شاحب

أشجار َالجادة.

البيانو القديم يعزفُ لحنًا موسيقيًا،

رصينًا وبطيئًا وجذلاً:

تنحني هي فوق المفاتيح الصّفراء،

ورأسها يميل هناك.

أفكارٌ خجولةٌ وعيونٌ رحيبة رزينة وأيدٍ

تهيم مائلةً-

يُغِير الشفق في الزرقة

بأضواء اللون الأرجواني.

            ***

في تلك السّاعة وقتَ تستلقي كلّ الأشياء،

يا أنت وحيدًا تتأمّل أعالي السّماء،

أتسمعُ ريح الليل وأنّات

القيثارات تعزف للحبّ حتّى يفتح

بوابات الشروق الشاحبة؟

وقتَ تستلقي كلّ الأشياء،

أوَحدك تنهض لتسمع القيثارات

    العذبة تعزف

أمام الحبّ لحنها،

وتجيب ريح الليل بترتيلةٍ

إلى أن يمضيَ الليل؟

اعزفي، ايتها القيثارات المحجوبة، للحبّ،

الّذي يتّقد طريقه في السّماء

وقت تظهر وتختفي الأضواء الرقيقة،

موسيقى عذبة تُسمع في الأعالي

وعلى الأرض.