مقاطع من سيرة شعرية (8)

نشر في 19-03-2013
آخر تحديث 19-03-2013 | 00:01
 د. نجمة إدريس تظل التجربة الشعرية ذات نسب ووشيجة متأصلين في أنساغ حياة كاتبها وسيرته مهما حاول المراوغة والالتفاف. ويقيني أن علاقة الشعر بحياة مبدعه لا تختلف عن علاقة الجنين بمشيمته. وعلى قدر ما تهيئه هذه المشيمة من أغذية وسوائل، على قدر ما يربو الجنين أو يهزل، يكمل دورة حياته أو يسقط خديجاً. ورغم ما في هذه (المشيمة/ الحياة) من قدرية لا رادّ لها، تبقى بكل زخمها ومنعطفاتها، وتوهّجها أو خمولها، مدماكاً أساسياً لنمو جنين الشعر وتشكّله، واكتماله خلْقاً سويّاً.

 لا توجد تجربة شعرية تستطيع أن تنسلخ عن حياة كاتبها النفسية والفكرية، وعلاقاته الإنسانية، وامتداداته في زمنه ومكانه، وتقلبات حياته، فكل هذا الزخم هو نسيج الشعر ونبضه، ولحمته وسداه.

 كان عام 1981م بالنسبة لي عام منعطفات حياتية ومتغيرات. هكذا تأتي الأشياء قدرية حدّ الاستسلام وحدّ الدهشة. ولم يشأ العام المثقل بالأحداث أن يودعني دون أن يختم شهره الأخير برحيلي إلى أرض نائية، اخترتها واختارها قدري مهرباً وفاتحة آمال ومنفى. لا أدري لماذا اختارت السماء أن تثلج بكل تلك القسوة مطلع عام 1982م؟ ولماذا ارتدتْ مدينة لندن ثوبها الأبيض الفاحش وهي تستقبلني طالبة في قسم الدراسات العليا في جامعتها؟!

 وهكذا رأيتُني وأنا أذوب في قوس الرمادي والأبيض أن الأشياء فيَّ تتناثر وتتشظى: وجهي، وجلدي، وصوتي، ولغتي! وكان عليَّ لكي أوقف هذا التصدع أن أخترع توليفة ناجعة ترمم الجسر بين الذات وعالمي الجديد. ومن هنا كان لا بد من اكتشاف هذا العالم في البدء، والذوبان في أحواله ومفرداته: الخضرة والحقول... وقرميد البيوت الريفية المدببة... القطارات المتدثرة بالأنفاق، والحافلات المترهلة بركابها... قبلات العشّاق اللامبالية... رذاذ المطر وانكسار الأشعة، وغمامات الضباب الصباحي... نهارات الشتاء المختصرة حدّ الشهقة، ومساءات الصيف المصلوبة على شمس العاشرة مساءً! معاطف وقفازات ومظلات... وصحن حساء وحيد في المساء... وآلة طابعة... وأوراق تتناسل، وكتب تنعس معي لتوقظني حروفها المنمنمة كل صباح، كيما ألحق بقطار التاسعة صباحاً.

 هذا العالم المتناثر في أحشاء الرهبة والوحشة، والمنكشف على العري والجمال، والمنفلت كالبرية، كان كفيلاً أن يصدّع العديد من الجدران والقلاع، ويُحدث بعض الشقوق المباركة التي أدخلت الشمس والأوكسجين. وكانت لغتي الشعرية أحد هذه الجدران، فكم هو أمر بسيط حدّ البداهة، ومذهل حدّ الدهشة حين تكتشف فجأة أن للتناثر والانفلات والتشظي معجزاته وآياته! وأنك تسبح في نثاره حراً نقياً إلا من نشوتك ورؤاك التي لا يراها أحد! ولكنك تدرك أيضاً وأنتَ تشقّ الشرنقة كم هو مؤلم هذا المخاض، وكم يحتاج من لهاث وترنّح! بل كم يحتاج من جسارة تسلخك من حنينك القديم وقوالبك الدافئة وبقاياك!

 كنتُ أدرك وأنا أكتب أول نص لي في (قصيدة النثر) عام 1983م، وتحت عنوان (طقوس الاغتسال والولادة)، أنني فعلاً أغتسل وأتطهّر وأستعد لطقس لغوي آخر. ومن خلال هذا الحدس كانت تنثال عليَّ صور (الماء) و(البحر) و(الزعانف) و(الأغنية المائية) بعيداً عن صليل الوزن ورنينه الرتيب. ما كان الإيقاع القديم للعَروض يشكل لي عقبة في التعبير، بقدر ما كان يشكل عقبة أمام ما وراء التعبير. هناك منطقة أشبه "بتموجات الحلم واهتزازات الضمير" كما يقول بودلير، منطقة سادرة في اندياحها وهيولاها، "لا تتكيف إلا مع الحركات المتناغمة التي تصدر عن الروح". في هذه المنطقة الواقعة ما وراء التعبير يصعب ترويض الإيقاعات المنفلتة أو تعليبها في مدى صوتي مقنن لا يتجاوز امتداد تفعيلة أو امتداد زنزانة لا فرق!

ولكن يبقى أن الحرية في (قصيدة النثر) ليست حرية مقطوعة الجذور بتاريخ الشعر وميراثه، بقدر ما هي سبقٌ وتجاوز لطقوس هذا التاريخ المضمر وصلواته الأولى. وهي أيضاً ليست حرية الجهل والفوضى، بقدر ما هي حرية الاكتشاف والنمو والاستعلاء. لذلك لا يمكن لقصيدة النثر المتميّزة أن تنهض على فراغ معرفي، أو تنبت في قريحة بلا مرجعية، بل يمكن القول بكل اطمئنان ان الوصول إلى هذا الشكل الشعري لا يمكن إلا أن يمثّل مرحلة تطورية تولد من رحم شرعيّ وأبوّة حقة. أما تحديد هوية هذا الشكل الشعري وكونها أصيلة أم مقتبَسة، فتلك مسألة خارج السياق، ما دام الشاعر ابن الحياة الواسعة وسليل الميراث الإنساني الكبير.

back to top