عندما نعيش في عالم مجموعة «الصفر»!

نشر في 03-02-2013
آخر تحديث 03-02-2013 | 00:01
قبل عام 2008، قللت الصين من أهمية قضية الجزر وتراجعت حتى بدا أنها لا تشكل أي خطر على جيرانها، لكن مع تواصل نموها الاقتصادي وضعف القوى العالمية الكبرى، توسعت طموحاتها ومطالبها، على غرار قوى عظمى كثيرة قبلها.
 أميركان إنتريست خلال السنوات الأربع الماضية، تبدلت طبيعة سياسات العالم بسرعة أكبر مما توقع الجميع. فقد تمتعت الولايات المتحدة بمرحلة غير مسبوقة من الهيمنة، بداية من سقوط جدار برلين وحتى الأزمة المالية عام 2008. قبل عقد، كانت ميزانية الدفاع الأميركية وحدها أكبر من ميزانيات دفاع كل بلدان العالم معاً. نتيجة لذلك، شعرت الولايات المتحدة أن بإمكانها شن "حرب اختيارية" في العراق.

صحيح أن الولايات المتحدة لاتزال القوة العسكرية المهيمنة، لكن وضعها المالي الضعيف اليوم يؤكد أنها أقل استعداداً لاستخدام هذه القوة. ويُعتبر تردد إدارة أوباما في أخذ القيادة في أزمات ليبيا وسورية، واليوم مالي، دليلاً على تحول الولايات المتحدة إلى دور أقل فاعلية. ومع استمرار أزمة اليورو، لم يتضح بعد ما إذا كانت القوى الأوروبية مستعدة لملء هذا الفراغ في المستقبل القريب.

إذن، ما الشكل الذي ستتخذه السياسات الدولية في عالم "مجموعة الصفر" هذا؟ تُعتبر هذه المسألة بالغة الأهمية بالنسبة إلى اليابان والدول الأخرى المقربة من الولايات المتحدة، لأنها ستُضطر إلى مواجهة خيارات عدة مع تراجع القوة الأميركية.

عقب الحرب العالمية الثانية، بنت الولايات المتحدة الأميركية نظاماً دولياً كانت تؤمن فيه وحدها عددا من السلع العامة الدولية الأساسية. بدأ هذا النظام مع شبكة حلفائها في أوروبا وآسيا، وكان الهدف منه احتواء الاتحاد السوفياتي. وهكذا دفعت الولايات المتحدة حصة الأسد كي توفر الأمن العسكري في هاتين المنطقتين كلتيهما، متيحةً لحلفائها التركيز على النمو الاقتصادي. وينطبق هذا الوضع خصوصاً على اليابان، التي تمكنت طوال هذه المرحلة من إبقاء إنفاقها العسكري أقل من 1% من ناتجها المحلي الإجمالي. لكن الولايات المتحدة أمنت سلعاً عامةً أخرى أيضاً.

يظهر جلياً أنه ما من قوة أخرى ستتبنى هذا الدور، وتسعى إلى رسم سياسات العالم على نطاق واسع. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن العالم سيغرق في حالة من الفوضى وانعدام الضوابط. فما يحدث بعد تراجع هيمنة الولايات المتحدة يعتمد إلى حد كبير على تصرفات شركائها ومدى استعدادهم للاستثمار في بنى جديدة متعددة الأطراف. أعفى الدور المهيمن، الذي اضطلعت به الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، حلفاءها من الحاجة إلى الاستثمار في قدراتهم أو أخذ القيادة في حل المشاكل الإقليمية، لكن الوضع تبدل اليوم وبات عليهم الاستعداد للقيام بمهام مماثلة.

بدأنا نشهد هذا التحوّل في أوروبا والشرق الأوسط. فقد دفع رفض إدارة أوباما التورط في التزامات جديدة بعد الربيع العربي بريطانيا وفرنسا إلى تحمّل العبء الأكبر في التدخل العسكري في ليبيا، في حين اكتفت الولايات المتحدة بلعب دور ثانوي، مقدمةً الدعم اللوجستي والاستخباراتي. ويبدو أننا نشهد السيناريو ذاته اليوم في مالي، حيث تدخل الفرنسيون لوقف تقدّم الإسلاميين نحو جنوب البلاد.

لكن الاختبار الحقيقي للبنى الأمنية الجديدة سيكون في آسيا. يشكّل بروز الصين كقوة عالمية تحديّاً أكثر تعقيداً يواجهه النظام الدولي اليوم. ويشبه هذا التحدي غالباً ببروز الدولة الألمانية الموحدة عام 1871. في الماضي، أساء العالم التعامل مع هذا التحدي، فانتهى به المطاف إلى الحرب العالمية الأولى.

لا شك أن إصرار الصين الجديد على مطالبتها بما تعتبره ملكاً لها في بحر الصين الجنوبي وجزر سينكاكو يعكس قوتها المتنامية. فقبل عام 2008، قللت الصين من أهمية هذه المسألة وتراجعت حتى بدا أنها لا تشكل أي خطر على جيرانها. ولكن مع تواصل نموها الاقتصادي وضعف القوى العالمية الكبرى الواضح، توسعت طموحاتها ومطالبها، على غرار قوى عظمى كثيرة قبلها.

تدرك الصين جيداً أن بروزها يهدد مصالح الكثير من جيرانها. لذلك ركزت نشاطاتها الدبلوماسية أخيراً على منعهم من التعاون معاً للتصدي لمطالبها هذه. فأعلمت دول آسيان (اتحاد دول جنوب شرق آسيا) أنها لا تستطيع إجراء مناقشات متعددة الأطراف تتناول هذه المطالب، بل على كل منها مناقشتها مع الصين وحدها، ما يتيح لبكين فرض هيمنتها. حاولت الولايات المتحدة حض دول "آسيان" على تبني موقف موحد، ما يبدو بالتأكيد مبرراً وضرورياً... إلا أن ذلك أثار غضب الصين. ولكن رغم جهود فيتنام والفلبين وغيرهما من دول "آسيان" لتأليف جبهة موحدة، نجحت الصين حتى اليوم في تقويض وحدتهم. فأخفقت القمة الأخيرة لدول "آسيان" في بنوم بنه في التوصل إلى اتفاق بسبب معارضة كمبوديا، التي كانت تتصرف بإيعاز من الصين.

يبدو الوضع في شمال شرق آسيا أكثر سوءاً. يُفترض أن تجمع بين اليابان وكوريا الجنوبية وحدةُ هدفٍ استراتيجية واسعة في تعاملهما مع الصين على الأمد الطويل، خصوصاً أن كلتيهما ديمقراطيتان حليفتان للولايات المتحدة، فضلاً عن أنهما تتعرضان للضغوط ذاتها من الصين. لكن اليابان سرعان ما وجدت نفسها معزولة في المنطقة بسبب بعض نقاط الخلاف التاريخية بينها وبين جيرانها. أحسنت إدارة أوباما بعدم تجاهلها آسيا، عبر طمأنتها حلفاءها الإقليميين، ودفاعها عن حق الدول التي قد تتعرض للتهديد الصيني بالتحاور في ما بينها للتوصل إلى حلول مشتركة. ولكن تشمل تداعيات الوضع المالي الأميركي تنامي الضغوط على قدرة الولايات المتحدة على الاضطلاع بالتزاماتها. صحيح أن الولايات المتحدة ستنقل بعض قواتها العسكرية إلى آسيا، إلا أن مسار ميزانيتها الدفاعية يتجه نحو التراجع على الأمد الطويل. وقد مالت كفة الميزان العسكري في المنطقة لمصلحة الصين أكثر مما يود الكثير من حلفاء الولايات المتحدة الإقرار به. علاوة على ذلك، صحيح أن التزام الولايات المتحدة الأساسي تجاه طوكيو بموجب الاتفاق الأمني الأميركي- الياباني ما زال قائماً، لكن ثمة الكثير من الشكوك حول مدى استعداد إدارة أوباما للتورط في صراع عسكري مع الصين بسبب بعض الجزر غير المأهولة في وسط المحيط الهادئ.

لا شك أن تبني اليابان وكوريا وأي من دول آسيا مساراً أحادياً لن يكون الرد الملائم على هذه الظروف المتبدلة، خصوصاً أن إدارة شينزو آبي الجديدة تخاطر بإبعاد الأصدقاء الذين تحتاج إليهم، بمن فيهم الولايات المتحدة، في حال أصرت على الدفاع عن روايةٍ وطنيةٍ ما عن القرن العشرين. لا يستطيع جيران الصين مواجهة هذه القوة المتنامية، كل على حدة. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى بنية متعددة الأطراف لا يكون هدفها عزل الصين و"احتواءها"، بل بناء قوة تفاوض ومقايضة كي تُحَل القضايا العالقة بالطرق السلمية وبالتعاون مع الصين.

شمل النظام العالمي، الذي قادته الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، استخدام السيادة الألمانية واليابانية لبناء قوى أخرى. في حالة ألمانيا، خُصصت لمنظمتين متعددتي الأطراف، هما الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. ولا تزال ألمانيا حتى اليوم تشكل جزءاً أساسياً فيهما. أما في حالة اليابان، فاحتفظت الولايات المتحدة بسيادة اليابان لنفسها بموجب المعاهدة الأمنية. وقد حال استمرار نقاط الخلاف التاريخية دون ظهور إطار عمل أوسع متعدد الأطراف يكون داعماً للقوة الأميركية. لكن هذا بالتحديد ما نحتاج إليه راهناً. أمامنا فرصة اليوم لنسد الفراغ في عالم "مجموعة الصفر" ببنى جديدة لم تُبتكر في واشنطن. لكن ذلك يتطلب من اليابان خصوصاً، وآسيا عموماً، أن تضطلعا بدور قيادي أكبر وتبرهنا على عمق بصيرتهما.

فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama

back to top