أنجزتُ كتاباً قصصياً هذا اليوم، نصوصه مُنتزعة من يومياتي، ولكن تحت تصرف سحر الخيال، استجابة في الكتابة لذاكرتي ومخيلتي معاً، وكأني آخذ صورة فوتوغرافية، وأتصرف بالرسم على سطحها حراً مع فرشاة الألوان. حدث أن حاولت ذلك في كتاب «مدينة النحاس»، ولعلي حاولته في مقالاتي بين الحين والآخر، وسأظل أحاوله في مقعد الاستراحة الذي يتوسط دربيْ الشعر والدراسة. كلا الدربين لا يمنحني لذاذةَ النثر الحكائي. في الشعر تتصرف بي اللغةُ على هواها، وعلى هواي أتصرفُ باللغة في غير الشعر. أثق بلغة الشعر لأنها غير هادفة، وليس لها من مقاصد مبيّتة. لغة النثر العاقل خادعة لأنها توهمك بمقاصدها باتجاه الواقع أو الحقيقة، وهي مجرد افتراضات مستوحاة من ظاهر الأشياء الخارجية. في حين يظل كنه معاني الأشياء غائباً. ومن يجرؤ على الاعلان عن معرفته بهذا الواقع، وهذه الحقيقة.

Ad

فيلسوفان كبيران مثل كانت وشوبنهاور كذّبا كل مظهر مرئي خارج جمجمة الرأس. فكيف لي أن أصدق بأن مدينة المنفى الذي أعيشه حقيقة أم محض حلم؟ ولكن نثر الحكاية طيّع، تستطيع فيه أن تقفز من مقعدك، وأنت منكبٌّ على صفحة الكتابة وقد استعصت عليك الكلمات، وتدخل بيسر في المرآة، وتختفي. هيرمن هيسه فعلها في واحدة من قصصه.   

لا يخلو عالم الواقع من امتدادٍ له لا يتضح للبصر، بل للبصيرة وحدها. ولا يخلو العالم الخفي والمجهول الذي يُحيط بنا من آثار خطوات يتركها على تربة الواقع. والشعر والحكاية احتفاء بنقاط التماس بين هذين العالمين. لم أتخلَّ عن احتفائي هذا حتى في حياتي الخاصة. وحدها المرآة التي تُخيّب ظني. صحيح أنها تعكس صورتي، فتجعل من أذني اليسرى أذناً يمنى، ولكنها لا تفاجئني، وأنا أرتقي السلم ليلاً إلى غرفة النوم، بشكلي وقد مُسخ سعلاةً أو سحلية.

هذا الارتقاء اليومي للسلم، أصبح في إحدى القصائد صيغة لرؤيا، هي أبعد من كل شيء أرضي آلفه. ضرب من التحرر أو التسامي الروحي:

الغزاة

في الليلِ أطفئُ كلَّ ضوءٍ،

أترك الشباكَ دون ستارةٍ، وأشرّعُ الأبوابْ.

إني أعرضُ للغزاةِ خرائبي:

كتباً، ومحبرةً، وأشباحاً تَبادلُ بينها الأنخابْ.

وأجرُّ ذيلَ ردائي الملكي،

تتبعني التماعاتُ النجومِ على السلالمِ،

دون حراسٍ ولا حُجّابْ.

أرقى، فينكشف الحجابْ.

اختارُ من شبكِ المجرّةِ ما يطاوعُني لكيْ أفنى،

بظلمةِ ليلها الجذّابْ.

أو أصبح رؤيا لا تخلو من مس، ترى في العتمة، وتسمع في الصمت، وتمس غير المحسوس:

قارئ في الظلام،

أنتَ تحرصُ في ساعةِ النومِ أنْ تُطفئ الضوءَ،

أنْ تتأكد باللمس من قفلِ بابكَ،

من أن نافذةَ البيت مُسْدلة الستر.

تقفزُ كالقطّ فوق السلالمِ،

تندسّ تحت الفراش، وتحلمُ:

أن الكتابَ الذي كنت تقرأه فوقَ مقعدكَ،

الآن يُفتحُ ثانيةً في الظلام،

وأصابعَ أُخرى تقلبُ أوراقه.

أن عيناً تُديم النظر،

في الفراغ المدوّم بين السطور!