تقضي إحدى القواعد المهمة، التي تُتبع خلال تقييم الاتفاقات الدبلوماسية، باعتبار أن هذه الاتفاقات لا تمثل سوى ميزان القوى لحظة توقيعها. هذا هو الواقع الوحيد الأكيد، أما الباقي (إعلانات السلام العظيمة أو تحويل المناطق المضطربة)، فيُعتبر أمراً نسبياً، فقد يتبدل ميزان القوى وتتغير معه مصالح أحد الأطراف أو كلها.

Ad

من الضروري فهم الاتفاق العام بشأن تدمير أسلحة سورية الكيماوية، الذي وُقع في جنيف الأسبوع الماضي في حركة دبلوماسية ناشطة، على ضوء هذا الواقع، فقد عقد هذا الاتفاق لأنه يناسب مصالح قادة الولايات المتحدة وروسيا وعدد كبير مفاجئ من حلفائهما.

أنقذ هذا الاتفاق الرئيس الأميركي باراك أوباما الكثير التقلب من خسارة المعركة ضد الكونغرس، الذي طلب منه أوباما الموافقة على توجيه ضربة عسكرية محدودة إلى سورية. كذلك أظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمظهر المنادي بالسلام في زمن يهدد فيه أوباما، الحائز جائزة نوبل للسلام، بالحرب، وأعفى الرئيس السوري بشار الأسد من ضربة صاروخية، مع أنه اضطر إلى التعهد، بحض من روسيا، بالتخلص من كل الأسلحة الكيماوية التي بناها والده ليوازن القوة الإسرائيلية، أما إيران، التي تمقت الأسلحة الكيماوية بعد أن لقي الآلاف من جنودها حتفهم في هجمات الغازات السامة العراقية، فرحبت بهذا الاتفاق الذي جنب سورية ضربة صاروخية كانت ستلقي، على الأرجح، ضوءاً غير مرغوب فيه على دعمها لنظام الأسد.

هذا ما يبدو جلياً اليوم، ولكن ماذا سيعني هذا الاتفاق على الأرض؟ حصلنا على تكهنات تضاهي بعددها عدد المعلقين في واشنطن، حيث تضاعفت نسبة الخبراء الاستراتيجيين مع تراجع جرأة الولايات المتحدة على اللجوء إلى القوة.

من الواضح أن الواقعية السياسية تزداد رسوخاً بين هذه التحليلات: بات الرئيس الأسد اليوم واثقاً من بقائه، بما أن ذروة الضغط الغربي لشن هجوم ضده قد انقضت والتخلص من ترسانته الكيماوية مهمة تستغرق سنوات، وبما أن توحيد فصائل الثوار مستحيل، فعلى الدبلوماسية الغربية أن تثير القدر الأكبر من الدخان لتخفي ضعفها، في حين أن الروس يمارسون ضبط النفس كي لا يصيحوا: "قلنا لكم إن هذا ما سيحدث".

يصر الرئيس أوباما حتى اليوم على أن هدفه ما زال "رحيل" القائد السوري، لكن منطق الواقعية السياسية وقسوة سياسات واشنطن يشيران إلى أن أوباما سيتعرض لأذى بالغ بمنح روسيا حق نقض في الملف السوري. فسيصبح أوباما "الجدار المائل" في الداخل والخارج قبل سنتين مما هو معتاد بالنسبة إلى رئيس فاز بولاية ثانية.

أما في ساحة القتال، فتندر السيناريوهات المتفائلة. تشمل النتيجة الأفضل تجميد الحرب الأهلية مع بقاء البلد في المستقبل المنظور منقسما بين مناطق يسيطر عليها النظام في الوسط وحول دمشق ومعاقل للثوار في الشمال والشرق وأجزاء من الجنوب، فقد قُسم لبنان على نحو مماثل خلال حربه الأهلية بين عامَي 1975 و1990.

لكن ما يزيد من خوف المعسكر الغربي ما يُدعى بسيناريو "الصحوة"، فقد رسخ اتفاق جنيف وإلغاء الضربة الصاروخية الأميركية بين فصائل المجاهدين وجهة نظر تدعي أن واشنطن تفضل اليوم استقرار بقاء الأسد في السلطة على عدم اليقين الذي يحمله انتصار المتشددين.

نتيجة لذلك، باتوا يعتبرون اليوم الدعم الأميركي للجيش السوري الحر المدعوم من الغرب محاولة لتكرار حركة "الصحوة" في العراق، حيث أيدت القبائل الولايات المتحدة وساعدتها كي تطرد عناصر تنظيم "القاعدة" من محافظة الأنبار عام 2006؛ لذلك وقعت صدامات عنيفة عند الحدود التركية بين المجاهدين والفصائل المدعومة من الغرب، وقد تؤدي هذه إلى حرب شاملة يُعتبر فيها الجيش السوري الحر الحلقة الأضعف.

أما السيناريو الأكثر تفاؤلاً، فيشمل عقد "صفقة كبرى" تستغل فيها الولايات المتحدة وروسيا انتخاب الرئيس حسن روحاني الأكثر ميلاً إلى المصالحة، على ما يبدو، تنهيان الحرب السورية، وتحلان الأزمة النووية الإيرانية برمتها. فمقابل السماح لآل الأسد بالرحيل من السلطة، تُعطى إيران الضوء الأخضر لتخصيب اليورانيوم إلى نسبة محددة تحت إشراف دولي. تكمن مشكلة هذا السيناريو في غياب الأدلة على أن الجيش الإيراني والحرس الثوري يفكران في انسحاب استراتيجي مماثل، رغم النوايا الطيبة المتنامية للرئيسين الأميركي والإيراني.

تشير الحجة المضادة لسيناريو "اعتبار أوباما الجدار المائل" إلى أن بوتين سيدفع غالياً ثمن انتصاره الدبلوماسي، فعليه أن يتحمل اليوم مسؤولية أعمال حليفه السوري الكثير التقلب، وإذا عرقل النظام السوري عملية تدمير الأسلحة الكيماوية، وهذا ما سيفعله بالتأكيد، فسيكون على روسيا بحد ذاتها إرغامه على التعاون، ما يفرض على القوتين الأميركية والروسية العمل معاً، تماماً كما فعلتا عندما سعتا إلى إنهاء الأزمة البوسنية.

بين السيناريوهات الكثيرة المقترحة ثمة طرح لا يجذب مخيلة المعلقين: مسح كامل مخزون سورية من الأسلحة الكيماوية، وتأمينه، وتدميره خلال الحرب الأهلية، ولا شك أن كلفة هذه العملية وتعقيدها ومخاطرها كبيرة، لكنها لا تُعتبر مستحيلة.

من الضروري محاولة توقع تأثيرات الاتفاقات الدبلوماسية، ففي عام 1919، أدرك جون ماينارد كينز، عالم اقتصاد، أن معاهدة فرساي للسلام، التي أنهت الحرب العالمية الأولى، كانت شديدة الإجحاف بحق ألمانيا، وأصاب في توقعه أنها ستؤدي إلى حرب ثانية.

لكن الاتفاق الذي توصل إليه في جنيف وزير الخارجية الأميركي جون كيري ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف جاء مفاجئاً جداً، ما صعب علينا مهمة تحليل أبعاده؛ لذلك تكون الطريقة الفضلى لفهمه اعتبار أن أبرز اللاعبين حصلوا على مجموعة جديدة من الأوراق.

ما كان أي منهم فرحاً بالأوراق التي يحملها؛ لذلك رحبوا جميعهم بصفقة جديدة، لكن أي تدبير يكون مفتوحاً على هذا القدر الكبير من التكهنات المتضاربة سيحمل مفاجآت أكثر منه استقراراً.

سيحتاج أي تقدم إلى رضا الطرفين، ما يعني أن إطار عمل مؤتمر جنيف لن يكون له أي فائدة إلا إذا كان الطرفان المعنيان يريان فائدة فيه. بكلمات أخرى، يكمن أمامنا صراع طويل قد لا نصل في نهايته إلى أي مستقبل واضح، غير احتمال أن تستمر الحرب الأهلية ومعها مأساة ملايين السوريين الذين فقدوا منازلهم.

* الان فيليبس | Alan Philps