أليس مونرو هي المرأة الثالثة عشرة التي تدوِّن اسمها في سجل هذه الجائزة. وهي ثاني من يفوز بجائزة {نوبل الآداب} من أبناء كندا وإن كانت أول فائز يُعتقد أنه كندي خالص. فقد فاز صول بيلو بالجائزة عام 1976 وهو من مواليد كيبيك، لكنه نشأ في شيكاغو ويعتبر على نطاق واسع كاتباً أميركياً.

Ad

وتفوقت القاصة الكندية على مجموعة من الكتاب الكبار الذين رشحوا للجائزة العالمية، في مقدمهم الروائي الياباني هاروكي موراكامي، الذي باعت روايته ما قبل الأخيرة ملايين النسخ، والأديب الإيطالي أمبرتو إيكو، والروائي التشيكي ميلان كونديرا، والروائية الأميركية جويس كارول أوتيس، والكاتب المسرحي المجري بيتر ناداش، والمغني والشاعر الأميركي بوب ديلان، إضافة إلى الكاتبين الأميركيين المخضرمين توماس بينكون وفيليب روث، ومونرو معروفة قليلاً في العالم العربي، إذ كتب عنها مجموعة من المقالات في العالم العربي غداة اعتزالها الكتابة، وترجم لها كتاب واحد هو {العشيق المسافر} على {سلسلة أفاق} المصرية، على عكس ما قيل إنها غير معروفة في لغة الضاد.

وأطاحت أليس بالتعليقات الفايسبوكية كافة حول الجائزة، إذ بدا بعض القراءات العربية لترشيحات نوبل أقرب إلى الكوميدية وهذيانية، فأحد الشعراء يضع صورته على الفيسبوك ويعلن ترشيح نفسه وآخر يعلن أن ثلاث مؤسسات ثقافية رشحته للجائزة، علماً أنه لا يملك كتاباً واحداً جديراً بالاهتمام، وثمة من يكتب أن الروائي إلياس خوري في مواجهة موراكامي، فيما ينظِّر روائي فرانكوفوني عن الأسباب التي جعلت لجنة تحكيم تستبعد أدونيس كأنه كان يجلس بينهم ويعرف كل أسرارهم، مع العلم أن إدارة الجائزة لا تفصح عن مضمون اجتماعاتها إلا بعد 50 عاماً.

اعتزال الكتابة

 وأن تفوز أليس مونرو بجائزة {نوبل الآداب}، فهذا يعني أن حكماء نوبل أرادوا تكريم القصة القصيرة هذا العام مقروناً بإعطائها لمبدع أو مبدعة من جنسية كندية. على أن القصة القصيرة، هذا الجنس الأدبي الذي كان له بريقه قبل أن يسطو عليه زمن الرواية، كانت سائدة بقوة في زمن مضى ولها نجومها وروادها الكبار، ولكنها اليوم تبدو خافتة وهامشية، ولم يأفل نجمها. لكن الرواية أخذت مكانها، وصار الروائي يكتب القصص الطويلة وأحياناً {يتحفنا} ببعض القصص القصيرة أو الطويلة. في العالم العربي كان هناك الكثير من الأسماء التي تكتب القصة القصيرة مثل محمود تيمور ويوسف إدريس ويوسف الشاروني، وحتى الآن ما زالت هناك أسماء لامعة في هذا المجال مثل السوري زكريا تامر، لكن المحنة ميديا الثقافة جعلت من {الرواية} و{الملحمة} هي الموضة التي يتبعها القارئ وحتى الناشر، ومن هنا كان جيداً أن تكرم نوبل القصة القصيرة لأنها لا تختلف عن الرواية البته، فكل قصة هي فكرة لرواية أو هي رواية بمعانٍ مكثفة.

الأمر الآخر أن فوز أليس بالجائزة ساهم أيضاً في العودة إلى تسليط الضوء على القاص الروسي أنطوان تشيخوف، فالقصة الملقبة بـ{تشيخوف كندا} أيقظتنا على القاص الروسي الشهير الغني عن التعريف، لكن ضباب الزمن يجعلنا ننساه أو يجعل دور النشر تتغاضى عن إعادة طبع كتبه، فحتى الآن لا يمكن للقارئ أن يجد نسخاً من قصصه في المكتبات اللبنانية.

الاعتزال

وأليس مونرو أيضاً فتحت المجال للثرثرة ومقاربة ما يسمى اعتزال الكتابة، فهي كانت لمّحت في يونيو الماضي إلى عزمها اعتزال الكتابة، وقالت في مقابلة صحفية آنذاك: {ربما توقفت عن الكتابة... ليس ذلك لأني لم أكن أحبها بل لأن هناك مرحلة يفكر فيها الإنسان عن حياته بشكل آخر}. وقالت مونرو بأن اعتزال فيليب روث شجعها على القيام بهذه الخطوة، حيث أعلن روث تقاعده في الخريف الماضي، عندما كان يستعد للثمانين من عمره قائلاً: {أصعب شيء في الحياة أن نكسر الصمت بالكلمات، ثمّ نكسر الكلمات بالصمت}. توضح مونرو: {أثق بفيليب روث كثيراً، يبدو سعيداً جداً الآن}. ولا أحد يدري إذا كانت الجائزة الشهيرة ستغير من مزاجية القاصة الكندية، فكثر من الكتاب يفضلون الموت على التوقف عن الكتابة. وكانت الشاعرة السورية جاكلين سلام نقلت إلى العربية بعض آراء مونرو حول الكتابة واعتزالها، في إحدى المناسبات، تمحورت كلمتها حول القرار الصعب الذي يواجه الكاتبة وهو: متى ستكف عن الكتابة، فيه قالت: {أقول في سري وللعامة لقد كتبت كتابي الأخير، وقد يعتقد أغلب الناس إنني أقصد الكتاب الذي تم نشره، ولكنني أقصد هذا الذي سيأتي، إن حصل ونشر. وأقول لنفسي سيكون هذا الكتاب الأخير. ولي أسبابي في ذلك: الكتابة تثير الأعصاب. أقصد مقاطعة الكاتب مسألة تثير الأعصاب. لنقل مثلاً، وفيما أنا أطبع هذه الكلمات، رنّ جرس الهاتف. إنه زوجي الذي يعمل في الحديقة. خرجت وصرخت به بصوت حاد كي يسمعني ويحضر. لم أجب على الهاتف، لكنني لا أشعر براحة كي أدع المسجلة تنقل الرسالة الصوتية. الهاتف يرن كثيراً وغالباً يكون لي وذلك خلال ساعات الدوام اليومي، فأجيب على الهاتف لأنها مكالمات تخص عملي وعلي أن أحلّها مباشرة. الطلبات تأتي واحدة بعد أخرى، لتقدمني إلى الناس على أنني {مواطنة مفيدة}، علم من أعلام الأدب، أو على الأقل يمكنني أن أجعل عيد ميلاد أحد ما أكثر سعادة، وذلك بوضع توقيعي على كتاب سيرسل إليه عبر البريد. شخص ما سيأخذ كتابي، يقف في الطابور في مكتب البريد ليرسله...}.

تتحدث الكاتبة عن الأمور التي تزداد تعقيداً مع التقدم بالسن عند النساء كما عند الرجال. وما يتطلبه ذلك من تمارين رياضية، مواعيد الأدوية، مراجعات الأطباء، ومواعيد إجراء الفحوصات والتحاليل. وصراع الاستمرار بالكتابة أو التوقف عنها تخفيفاً لإرهاق الأعصاب والنفس: «إذا، أستطيع أن أتوقف عن الكتابة، كي أتدبر أمور الحياة. مع الأخذ بالعلم أن من النادر أن يكون هناك عمل متميز قد أنتجه في هذه السنوات. وبناء عليه فأن عدم صدور كتاب أو كتابين لي، لن يشكل خسارة لأي فرد هناك. بالتأكيد سأتخلص من سؤال المستعجلين عن النسخة النهائية للمخطوط. التخلص من إلحاح وانتظار الناشر، طباعة الكتاب، ثم الذهاب به لمواجهة «العالم العظيم». ولكن يبدو حقاً أن عالم النشر والكتابة والتنقيح والقراءات، عالم صغير حيث أغلب الناس في محيط مدينتك لن يعرفوا اسمك يوماً»...

الريف الكندي

موضوع مونرو الأثير هو رصد العلاقات الاجتماعية بين الناس فى بلادها، لا سيما فى مدينة فانكوفر في كندا وتركيزها ينصبّ على العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر: أي تجربة مضى بها الزمن وتجربة قائمة تثير العجب لتشابهها فى النهاية مع تجارب الماضى القريب وربما البعيد. يمكن القول إن المفاتيح لعوالم مونرو ليست كثيرة، فهي الريف والوحدة والذكريات التي لا يمكن وصفها بالسعيدة أو التعيسة، لكنها الحياة بكل بساطتها وهمومها وتفرعاتها المدهشة، ليصبح التجلي الأهم لديها هو كيفية تقديم هذه الموضوعات، وهو ما لا يمكن رصده عبر كلمات أو شروط واضحة. رغم النعومة التي تتسم بها قصص مونرو إلا أنها لا تخلو من انتقادات لكل من المؤسسات الدينية التي أصبحت ستاراً لكل ما هو سيئ، وهي محبة للأماكن التي أقامت وعملت فيها (كانت تملك مكتبة في فترة من حياتها). محبة للوحدة التي تصل إلى حد العزلة، ومفتونة فتنة بتقنيات القصة القصيرة، وعدم الرغبة في التحوّل إلى الرواية، وكانت ميزتها في عيون معجبيها أنها أثرت قصصها بالحبكة وعمق التفاصيل التي تميز الرواية الطويلة عادة. والأبطال في قصصها في الغالب فتيات وسيدات يعشن حياة تبدو عادية لكنهن يصارعن محناً كالتحرش الجنسي أو الزواج المأساوي أو مشاعر الحب المقموعة أو متاعب الشيخوخة.

منذ أن كانت في الرابعة عشرة، قالت مونرو إنها كانت تعرف جيداً بأنها تريد أن تكون كاتبة: {لكن في العودة إلى ذلك الوقت أنت لا تعلن شيئاً مثل هذا لمن حولك}. أضافت: {لم ألفت الانتباه، ربما لأني كندية، ربما لأني امرأة. وربما كلاهما}.

بقيت أليس مونرو تكتب سراً وترسل المخطوطات إلى الناشرين لترفض وتعاد إليها. 15 عاماً تكتب وتُرفض لتكتب وترفض إلى أن جلست في السابعة والثلاثين في مكتبة زوجها. كتبت من دون هاجس هذه المرة، وأحسّت بأنها تقوم بمهمة في عالم حقيقي. حمل البريد ست نسخات من مجموعتها الأولى فذُعرت وخبأتها في الخزانة تحت الدرج. كان عليها الانتظار أسبوعاً لتجد الجرأة على قراءة كتابها وتنتهي راضية، وتصبح كاتبة رسمياً.

صدرت مجموعة أليس مونرو الأولى في 1968، عندما كان عمرها 37 عاماً، وعملها لم يجذب الانتباه خارج كندا حتى بدأ في الظهور في النيويوركر في نهاية السبعينيات. صنعت شهرتها مع كتابيها الخامس والسادس، {أقمار المشتري} (1982) و{ارتقاء الحب} (1986)، حيث تجاوزت فيهما أسلوب البناء التقليدي للقصة القصيرة، حيث تبدأ قصتها من النهاية وتنتهي أحياناً في الوسط. ببطء وصلت إلى ما أسمته مارغريت أتوود {القداسة الأدبية العالمية}. وتمتاز مونرو بقدرة كبيرة على الحكي لا يضاهيها فيها كاتب معاصر آخر، فهي لا تسرد القصص التي يمل منها القارئ بعد قراءة صفحة واحدة ولكنها تسرد القصص التي تزيد من شوق القارئ بعد كل سطر من سطورها، وقد تكون أليس مونرو الكاتبة الوحيدة في العالم التي نالت شهرتها من خلال القصة القصيرة.

وكما كانت الكتابة الإطار الذي انتظمت حياتها به وسط الأسرة والواجبات التي ضاقت بها، ثمة شكل قاطع تبحث شخصياتها عنه ليعرّف حياتها ويحدّده. لكن، كثيراً ما تغيّر نظرة أو حركة يد هذه الحياة إلى الأبد، ومن دون كلمة واحدة توضح سبب الانفصال الأليم أو تخفّف من وقعه. تأتي الحياة الداخلية أولاً لدى مونرو، وتبقى ملكاً خاصاً من أسباب التكتّم حوله معارضة البوح {النسائي} البغيض.

وبحسب ما جاء في الترجمة العربية لكتابها {العشيق المسافر}،  قصصها تشي بثقافة واسعة، وملاحظة ثاقبة، وإخلاص كامل لفن القصة القصيرة، كاتبة هذه القصص لا بد من أن تكون أديبة بدوام كامل، تأكل، وتشرب، وتمشي، وتحزن، وتنام، وهي واعية بذاتها كقاصة. كأن جزءًا منها انعزل عنها لا يفعلُ شيئاً سوى المراقبة الذكية: مراقبة الآخرين، ومراقبتها هي نفسها وهي تنغمس في الحياة والمشاعر؛ لتُخرِج هذه الشخصية الأخرى في ما بعد دفقات من التفاصيل والملاحظات التي لن تتوقف أمامها كقارئ متسائلاً عن جدواها، أو عن إمكان حذفها، فقط ستغوص معها برفق. ويقول مترجم الكتاب أحمد الشيمي عن أليس مونرو إنها كاتبة تكتب فحسب فتقنعك في كل قصة من قصصها أن الخيال أجمل من الحقيقة وأن الأساطير خير وأبقى من حقائق التاريخ وأن الحلم أجمل من الواقع.

وفي قصص هذه المجموعة {العاشق المسافر}، نجد أشخاصاً يمارسون هواية الكتابة أو يريدون ممارسة الكتابة ولكن الكُتاب مهرة لا يجدون إلى سياستها سبيلاً وقصة {حيوات بنات ونساء} خير دليل على ذلك لأنها تتناول فنانة من البداية وحتى النهاية.

وتمتلئ قصص المجموعة بشخصيات هشة لا حيلة لها ولا طاقة على التغلب على تبعات الحياة الصعبة، شخصيات ضعيفة لا تملك من أمرها شيئاً ولا أمل لها يلوح في الأفق القريب أو البعيد، وهي شخصيات نجدها في حياتنا اليومية، شخصيات منتشرة في قصصها انتشارها في الحياة من حولنا.

وفي باقي قصص المجموعة تعرض علينا أليس مونرو نماذج تتضاد معها نماذج من شخصيات تمتلئ نفوسها بحب الحياة ولا تلتفت إلى الوراء، وإنما تجد الحلول في التفكير للمستقبل وتحليل الماضي والاستفادة منه أو تركه في مكانه الأول ومن الماضي ما يصلح ومن الماضي ما يفسد ومن الماضي ما لا يصلح ولا يفسد.

سيرة

ولدت أليس مونرو في 10 يوليو 1931 في وينغهام في ولاية أونتاريو، بدأت بكتابة القصص في سن المراهقة، غير أنها نشرت كتابها الأول عام 1968 بعنوان {رقص الظلال السعيدة}، ومن أهم مجموعاتها: {العاشق المسافر، الهاربة، قريباً، المشهد من كاسل روك، حلم أمي، من تظن نفسك، أقمار المشتري}، وآخرها {الحياة العزيزة}. وتحولت قصتها {الدب قادم من الجبل} من مجموعتها القصصية {كراهية فصداقة فتودد فحب فزواج} إلى فيلم {بعيداً عنها} للمخرجة سارة بولي والذي رشح لنيل جائزة أوسكار.

تزوجت مونرو من جيمس مونرو عام 1951 وانتقلا للعيش في فيكتوريا حيث أدارا متجراً للكتب لا يزال قائماً حتى الآن. أنجب الزوجان أربع بنات إحداهن توفيت بعد ولادتها بساعات، ثم انفصلا عام 1972 وبعدها عادت مونرو إلى مسقط رأسها أونتاريو.

وتوفي زوجها الثاني الجغرافي جيرالد فريملين في أبريل الماضي، وهو السبب الذي قال ناشر أعمالها جيبسون إنه دفعها إلى اتخاذ قرار التوقف عن الكتابة.

مقطع من «نهر منستيونغ»

شيءٌ واحد لاحظته ألميدا على النسوة المتزوجات: كيف أن الكثير منهن يعمدن إلى رسم صورة ما لأزواجهن. يبدأن بأن ينسبن إليهم الأشياء المفضلة لديهن، ثم الآراء والأساليب السلطوية. تقول الواحدة منهن مثلا: نعم زوجي أنيق جدًا ويدقق في كل شيء. لا يمس اللفت ولا يحب اللحم المقلي (أو يحب اللحم المقلي). يحبني وأنا أرتدي الأحمر (أو اللبني) طوال الوقت. لا يطيق صوت الأرغن، ولا يحب أن يرى امرأة عارية الرأس. يقتلني لو رآني آخذ نفسًا من سيجارة. بهذه الطريقة يتحول الرجال ضعاف الشخصية إلى أزواج، أصحاب بيوت. ألميدا روث لا تتخيل نفسها تفعل ذلك. تريد رجلاً لا يحتاج إلى من يصنعه من جديد، واثق من نفسه وصاحب رأي، ومكتنف بالأسرار. إنها لا تبحث عن مجرد رفيق. الرجال في رأيها، في ما عدا والدها، مفتقرون للحياة، غافلون. وترى أن هذه الصفات لا بد منها في الرجال حتى يفعلوا ما يجب أن يفعلوا. فهل كانت، لو عرفت أن الأرض تختزن الملح في باطنها، تسعى إلى استخراجه وبيعة؟ أبدًا. كانت ستفكر في البحر القديم. وهو نوع من التأمل لا يجد جارفيز وقتًا له بأي حال.