مصر... التعويل على السلفيين
تجري في مصر مفاوضات مكثفة راهناً للوصول إلى صيغة للتفاهم، وربما التعاون، بين المعارضة المدنية ممثلة في "جبهة الإنقاذ" والتيار السلفي ممثلاً في حزب "النور" وعدد من الأحزاب الأخرى، في محاولة لتصليب جبهة معارضة قوية في مواجهة "الإخوان المسلمين"، الذين أظهروا رغبة عارمة في الاستعلاء والاستحواذ، بشكل أضر بتحالفاتهم الاستراتيجية مع التيارات السلفية.لقد زاد الإعجاب في الفترة الأخيرة بمواقف السلفيين السياسية إزاء جماعة «الإخوان المسلمين» ورئاسة الجمهورية، إلى حد أنهم تلقوا إشادات من سياسيين وكتاب ومحللين ليبراليين عديدين، كما تداول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي مواقفهم وتصريحاتهم الأخيرة، باعتبارها «عنواناً» للممارسة السياسية الفعالة ضد «هيمنة الإخوان».
وراح سياسيون معارضون للدولة الدينية ومنتقدون للأداء المزري لمؤسسة الحكم، يكيلون المديح للمواقف السلفية الأخيرة، معتبرين أنها أظهرت «معارضة واعية وقوية» للرئيس وجماعته.إنها حالة جديدة طرأت على المشهد السياسي المصري، وهي حالة يريد فيها فصيل من المعارضة الوطنية أن يستقطب السلفيين إلى الموقف المعارض لـ«أخونة الدولة»، باعتبار أن ثمة مصلحة مشتركة تجمع الفريقين الآن في مواجهة استئثار «الإخوان» واستبدادهم وعجزهم عن الوفاء باستحقاقات القيادة.يقول المثل الشعبي المصري: «عدو عدوي صديقي»، ويقول أيضاً: «اللي تغلب به... العب به»، وهو المفهوم الذي تم تأصيله في الفكر السياسي عبر آلية "التحالفات الاستراتيجية"، بمعنى الاصطفاف مع السلفيين في مواجهة «الإخوان»، وعند الإطاحة بهم من الحكم، يمكن آنذاك حسم الخلاف مع السلفيين.منذ تم تشكيل حكومة الدكتور هشام قنديل، التي تواجه انتقادات مريرة بسبب فشلها وعجزها الواضح عن إنجاز أي تقدم في أي من الملفات الحيوية، ومع استمرار التراجع في أوضاع الأمن والاقتصاد، يحاول السلفيون أن يظهروا قدراً من المعارضة واضحاً لتلك الحكومة، كما أصبحوا ينتقدون علناً سياسات الرئاسة بانتظام. لا تتوقف وسائل الإعلام المحسوبة على التيارات السلفية راهناً عن انتقاد أداء الرئاسة والحكومة، وبات ملف "أخونة الدولة" أحد الملفات الرئيسة التي يتداولها السلفيون في فعالياتهم السياسية وفي خطب الدعاة التابعين لهم، وأيضاً في وسائل الإعلام التي يمتلكونها أو يحلون ضيوفاً عليها. كانت ذروة الافتراق بين الحليفين التقليديين عندما تمت إطاحة الدكتور خالد علم الدين القيادي السلفي من منصبه كمستشار لرئيس الجمهورية في واقعة مذلة، تم توجيه اتهامات مسيئة له خلالها بـ"استغلال النفوذ"، وهي الاتهامات التي لم تثبتها الرئاسة حتى اللحظة على أي حال.خيّر علم الدين الرئاسة، عبر إنذار مسجل، بين إثبات التهم المنسوبة له، أو تبرئة ساحته علناً والاعتذار له، أو القيام برفع قضية يتهمها فيها بـ"تشويه" سمعته، في موقف يدعمه فيه حزب "النور" وفعاليات سلفية أخرى عديدة.لقد ناصر السلفيون "الإخوان" في الميادين والانتخابات، وضغطوا سوياً على المجلس العسكري، الذي كان يدير شؤون البلاد في أعقاب إطاحة مبارك، للوصول إلى الانتخابات التي مكنتهم من أغلبية المقاعد النيابية، وأوصلت مرشحاً إسلامياً إلى قصر الرئاسة، لكن السلفيين شعروا بعد ذلك أنهم لم يحصلوا على القدر الكافي من "الغنائم" بعد خوضهم "الغزوات الناجحة" مع حلفائهم "الإخوان".لم يحصل السلفيون على عدد مناسب من الحقائب الوزارية التي طالما حلموا بها، ولم يشاركوا في مؤسسة الرئاسة بشكل يعكس "مكاسبهم الانتخابية ووجودهم الملحوظ في الشارع"، وأخيراً فقد تم استبعاد أحد رجالهم من مؤسسة الرئاسة عبر اتهامات "شائنة".شعر السلفيون بالإحباط، خصوصاً أنهم يعتقدون أن بوسعهم منافسة "الإخوان" في الانتخابات المقبلة، التي يتنافس فيها الجانبان على أصوات البسطاء من المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر ويعانون الأمية ويتجاوبون مع "المساعدات العينية والمالية" التي يتقن الإسلاميون تقديمها للقاطنين في المناطق المسحوقة والفقيرة والمهمشة. لقد تلقفت بعض الأحزاب والقوى المدنية، التي لا تحظى بتمركز معتبر في الشارع، بسبب سوء أدائها الميداني المزمن، "الهدية الجديدة"، ورأى هؤلاء أنه يمكن "مكايدة (الإخوان) بالسلفيين"، ولذلك فقد جرت محاولات لـ"غسل سمعة" الأحزاب والرموز السلفية، وإعادة تقديمها إلى المجال العام باعتبارها «أحزاباً ورموزاً ذات فكر سياسي ورغبة في توسيع رقعة الديمقراطية والمشاركة ومقاومة هيمنة السلطة واستبدادها». فهل يمكن فعلاً اعتبار السلفيين ومواقفهم الراهنة رصيداً للمعارضة الوطنية الديمقراطية؟ وهل يمكن الوثوق بـ«قدرة» السلفيين، أو «رغبتهم» في تطوير عملية سياسية ديمقراطية حقيقية في البلاد، تحقق التفاعل والمشاركة، وصولاً إلى بناء دولة مدنية حديثة؟ الإجابة: قطعاً لا. لم يقع الخلاف بين «السلفيين» و«الإخوان» من أجل أسباب تتصل بالديمقراطية والمشاركة والمصلحة الوطنية، لكن الخلاف وقع بينهم، بسبب السباق على «الغنائم»، ورغبة كل طرف فيهم في الاستئثار بمكاسب «غزوات الصناديق»، أو توسيع حصته في الحكم، وإنفاذ رؤيته لمستقبل البلاد.يقول القيادي "الإخواني" عصام العريان للداعية والقيادي السلفي ياسر برهامي معاتباً: «نحن ننتمي لفكرة واحدة ومشروع واحد ألا وهو تطبيق الشريعة... نحن وأنتم الآن في مركب واحد».ويرد برهامي عليه بقوله: «أنتم لم تلتزموا بالشروط والاتفاقيات التي تمت بيننا، ولا توجد شراكة، خاصة بعد إقالة علم الدين».إنه حوار يكشف بوضوح حقيقة ما جرى بين الحليفين الوثيقين، إذ يبدو أن السلفيين يقولون: «تحالفنا ضد الآخرين، وخضنا غزوة الصناديق، لحصد الغنائم واقتسامها والهيمنة على الحكم، ثم جاء فصيل منا ليستأثر بالغنائم وحده، بداعي شرعية الصناديق... لكننا لن نسكت على هذا، سنعارض، ونفضح، ونواجه».ويرد «الإخوان»: «لا تنسوا أننا الأقرب لبعضنا البعض... نحن نبيع البضاعة نفسها، ونلعب بالطريقة ذاتها، ارجعوا إلى رشدكم، وإلا سنخسر جميعاً».هذا حوار مُتخيل، لكنه ليس خيالياً بكل تأكيد، فثمة دلائل عليه، ليس فقط مما يقوله قادة الفريقين، ولكن مما تؤكده الحوادث وتبرهن عليه الوقائع، خصوصاً أن الشقاق الكبير لم يقع عند الموافقة على قرض صندوق النقد الدولي «الربوي»، ولا عند وصف مرسي لبيريز بـ«الصديق الوفي»، ولا عندما قُتل الثوار، وسُحل المتظاهرون، وعذبوا، ولا حين صدر الإعلان الدستوري الاستبدادي.لقد تحالف «الإخوان» والسلفيون في «إرهاب» الجيش والضغط عليه بمساعدة واشنطن، ليتسلموا السلطة، كما رفعوا سويا الأعلام السوداء في القاهرة وسيناء، وهددوا وضربوا وسحلوا المعارضين، وحاصروا معاً المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي، وهتفوا سوياً ضد المعارضين في الميادين، مخاطبين مرسي: «إدينا إشارة... نجيبهم في شيكارة». ليس أسوأ من استعانة «الثوار» بـ«الفلول» في معركتهم، من أجل تحقيق أهداف ثورة يناير، سوى الاصطفاف مع السلفيين لمواجهة استبداد «الإخوان» وعجزهم.لقد وطد سلفيون لنظام مبارك، وحرّم بعض دعاتهم الخروج عليه، واعتبر آخرون أن الديمقراطية "كفر"، وكانت المساهمة السلفية في صياغة الدستور، الذي تم إقراره في ديسمبر الماضي، شديدة السلبية، كما ظل السلفيون منخرطين طوال الوقت في محاولات مستميتة لإقرار سياسات شكلية لا تعكس جوهر الإسلام النبيل ولا تتسق مع روح العصر.يطرح السلفيون رؤى أكثر ظلامية ورجعية لمصر من تلك التي يطرحها «الإخوان»، وأداؤهم في السياسة والمجال العام مزر وشديد الرجعية.تقول الحكمة التركية: «البجع قد يسير مع سرب البط، لكنه يبقى في النهاية بجعاً»، لذلك يجب عدم التعويل على السلفيين في محاولة التخلص من فشل "الإخوان" واستبدادهم.* كاتب مصري