علي العندل وعبور النهر
هل أقول إنني نسيتهُ في زحمة الاشتراطات الحياتية القاسية هذه، رغم ذلك، كنتُ غالباً ما أسأل عنه عندما كنت أزور الإمارات. يبدو لي أن الكتابة عن الموتى، رثاء للذات أكثر مما للميت. قبل أسبوع وأنا أفتشُ في ملفات وأوراق قديمة وإذا بي أجد قصاصة تعود إلى الشاعر الإماراتي علي العندل بخط يده، وعادت بي الذاكرة إلى تلك السنوات البعيدة. رحل علي العندل قبل حوالي عشر سنوات، وفي الفترة الأخيرة رحل آخرون من الأصدقاء الكتّاب: الشاعر احمد راشد ثاني، والقاص عبدالله أخضر، والكاتب علي المعمري. الحياة دوران عبثي في حلقة خرساء.
عندما تركنا علي العندل، أحسست كأنه كان يرحل عبر النهر الذي لن يعود منه أحد. رحل ولم تكن لدي أي تفاصيل عما حدث له وكيف ومتى؟ مع أنني قد كنتُ قد تخيلت انه ذهب في رحلةٍ قصيرة وسرعان ما سيعود إلى بيته. لكن ذلك لم يحدث بالطبع. على الأرجح أن علي العندل، لم يكن يطيق نفسه ولا العالم، كأنه جاء بالصدفة، ورحل بالصدفة، ما كان يعنيه ويبحث عنه لم يجده، لا في العائلة ولا في محيط أصدقائه، أعزل؟ نعم، ولم يكن يملك قوة العيش، أو ربما امتلك قوة الحياة حتى فاضت هذه الأخيرة من روحه، قرفاً. كلما كنت ألتقي به كانت ابتسامته الغامضة، المحيّرة قليلاً، المنتشية والخجولة على وجهه. فلنقل إنها ابتسامة ضبابية. كان علي العندل شاعراً، هادئاً، من الخارج على الأقل، من معرفتي به، وكان في لحظات التجلي الخاصة، يحب الحديث بلطف. أحياناً كان يسعى للقائي عندما يسمع أنني في الإمارات، كان يأتي وكان يقرأ لي من نصوصه وشذراته، لم يكنْ يطلبُ رأياً، كان فقط يريد أن أصغي إليه. على الأرجح لم يكن يهتم لا برأي ولا بآراء الآخرين، كان يكفيه أن يقرأ قصائده فحسب. قال لي مرة انه مهتم بالفلسفة، لكن هذه الأخيرة لم تنقذه أيضاً. كان علي العندل عبر الانطباع العام الذي أتذكره في شعره، مطيّر صور دون نسق كبير، كما لو كنا نقول مطيّر حمام الذي يعود في الأخير إلى سكينة المنزل. أنتحدث عن القسوة في مجتمعات توصف دائماً في حقل الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، بمجتمعات الطفرة النفطية. كل ما أعرفه أن علي العندل كان يسكن ويرتاد أمكنة شعبية، مظلمة، هل يمكن أن يحدث هذا؟ نعم وقد كان أحد خريجي جامعة العين. في بداية الثمانينات من القرن الماضي عندما كنتُ أقيم في طنجة، جاء علي العندل إلى هناك وبما أنني كنت مسافراً خارج المغرب، لذا لم أره، وعندما التقينا بعد مضي سنوات ليست قليلة أخبرني بأنه جاء لزيارتي. على كل حال عندما رأيتُ علي العندل في سنواته الأخيرة، كان حزيناً، وذات ليلة عرفني على (على ما أذكر) على ابنه والمنزل الذي كان يُقيم فيه، وأذكر أنني كنتُ أشجعه للخروج من مأزق كان يراه وجودياً، بينما كنتُ أراه تدميراً للذات. في تلك السنوات أخبرني الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني أن علي العندل كان يُهيئ مجموعة شعرية للطبع، لكنها لم تظهر على حد علمي حتى الآن، في ظني أن تجربة علي العندل تندرج في سياق تجارب شديدة الهامشية، كتجربة الشاعر العراقي حيدر صالح مثلاً أو آدم حاتم الذي لم يصدر سوى مجموعة شعرية واحدة.