أوروبا والمحور الآسيوي الذكي

نشر في 19-09-2013
آخر تحديث 19-09-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت للمرة الأولى منذ قرون من الزمان، يتحول تركيز الاقتصاد العالمي نحو الشرق. فقد بدأت الولايات المتحدة "محورها" في آسيا، وعلاقاتها مع الصين بشكل خاص تبدو باستمرار وكأنها تغازل "فخ ثوسيديديس" أو النمط التاريخي الذي يشير إلى أن أي قوة صاعدة لابد أن تصطدم حتماً بالقوة المهيمنة. ولكن في ظل ما يتسم به التعامل بين الولايات المتحدة والصين من حذر وتحفظ في ما يتصل بأهم الشؤون العالمية، فأين يأتي دور أوروبا على وجه التحديد؟ إن الاتحاد الأوروبي يمر بمنعطف تاريخي حاسم يفرض عليها تكوين محور خاص بها باتجاه الشرق- استراتيجية آسيوية متماسكة وحاسمة تبني على مواطن القوة التي تتمتع بها أوروبا. ورغم أن مجموع سكان الاتحاد الأوروبي يعادل 20% فقط من مجموع سكان الصين والهند، وأن حضورها العسكري في آسيا ضئيل جدا، فإن اقتصاده الذي يبلغ حجمه 12.6 تريليون يورو (16.8 تريليون دولار أميركي) يُعَد الأضخم على مستوى العالم.

ولم تغب هذه الحقيقة عن الحكومات في آسيا، التي تعتمد بشكل كبير على النمو الاقتصادي لتلبية الطلب المتزايد من قِبَل شعوبها الشابة النامية على فرص العمل والازدهار. وحالياً تُعَد آسيا الشريك التجاري الرئيسي للاتحاد الأوروبي، فتتفوق على أميركا الشمالية وتشكل ثلث مجموع تجارتها. فالتجارة مع الصين وحدها تتجاوز في حجمها مليار يورو يوميا، وهي المرتبة الثانية بعد التجارة مع الولايات المتحدة فقط. وعلاوة على ذلك فإن الاتحاد الأوروبي لديه رصيد لا يخلو من مفارقة من الأصول تحت تصرفه: فهو ليس قوة باسيفيكية ولا يحمل عبء القوة العظمى في آسيا. وبعيداً عن كونه نقطة ضعف، فإن هذا هو على وجه التحديد مصدر القوة الكامن في الاتحاد الأوروبي، فهو يوفر لها درجة من خفة الحركة الدبلوماسية لا تستطيع أميركا الثقيلة الوزن أن تدركها. في محاولتها لبناء محورها الاستراتيجي، تلاحق الولايات المتحدة عند كل منعطف تقريباً مكانتها بوصفها قوة مهيمنة تاريخياً، وقوة عسكرية، والضامن لأمن حلفائها في آسيا. وحتى عندما يعاد تصنيف تحول أميركا نحو الشرق باعتباره وسيلة لإعادة التوازن فإنه يستقبل حتماً بعين الريبة من قِبَل بعض الدول الآسيوية، خصوصاً الصين. أما أوروبا فهي على النقيض من ذلك قادرة على استخدام خفة حركتها لإنشاء "محور ذكي". ويتعين على الاتحاد الأوروبي أن ينخرط مع آسيا في ثلاث جبهات على الأقل تعود على الطرفين بمنافع متبادلة، حيث تشكل التجارة الجبهة الأكثر أهمية. فاتفاقيات تحرير التجارة التي عقدها الاتحاد الأوروبي مع اقتصادات آسيا النشيطة النابضة بالحيوية (بما في ذلك كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا والهند وفيتنام واليابان وتايلند) أكثر طموحاً في نطاقها من الاتفاقيات الثنائية السابقة. ومع تبلور ترتيبات التجارة الحرة الإقليمية الواسعة النطاق، يواصل الاتحاد الأوروبي الإشارة إلى التزامه الواضح بالتجارة الحرة من خلال اتفاقيات ثنائية متطورة. ولكن التدفقات التجارية معرضة للخطر. لاشك أن العلاقات الاقتصادية بين الدول تعمل على تعزيز الاعتماد المتبادل والحد من مخاطر الصراع، ولكن إذا اندلعت صراعات فإن التكاليف ستصبح أعلى كثيراً. فعندما اندلع النزاع على الأراضي من جديد بين اليابان والصين حول جزر سينكاكو/دياويو في العام الماضي، انخفضت صادرات السيارات اليابانية إلى الصين بنسبة 80% في غضون ثلاثة أشهر فقط. وهنا تكمن مفارقة آسيا المحددة: فلم يكن المستوى المرتفع من التكامل الاقتصادي كافياً لنشوء المؤسسات الإقليمية القادرة على دعم الاستقرار المطلوب لتحقيق الازدهار المستدام. وبدلاً من هذا فإن آسيا لاتزال تحمل ندوباً عميقة بفعل منازعات غير محسومة، ونوبات دورية من النعرة القومية، والحدود المتنازع عليها، وكل هذا يميل إلى التضخم بفعل التخوف الناجم عن الصعود غير المتسق لبعض قواها. إن التكامل الإقليمي يشكل وصفة للاستقرار الطويل الأجل في آسيا، وخطاً ثانياً للمشاركة بالنسبة للاتحاد الأوروبي. ففي أوروبا، التي مزقتها الحرب ذات يوم، أصبح النزاع المسلح بين بلدان الاتحاد الأوروبي احتمالاً لا يمكن تصوره تقريباً. كما سهلت البنية المؤسسية للاتحاد الأوروبي التحول من الحروب المدمرة والمتكررة إلى السلام والازدهار. بيد أن إنشاء البنية الهندسية مهمة شاقة استغرقت من أوروبا عقوداً من الزمان ولاتزال جارية حتى الآن. فقد كشفت المآزق والأزمات المتعاقبة عن العيوب في التصميم المؤسسي للاتحاد الأوروبي، وكل ترقية (مضنية) جعلت المشروع الأوروبي على ما هو عليه من قوة الآن. ومن دون تلميح إلى الأبوية، ومع إدراكه لوضعه كعمل قيد التطوير والإنجاز، فيتعين على الاتحاد الأوروبي أن يزيد انخراطه في الهياكل القائمة في آسيا وأن يعرض معارفه كلما أمكن- على سبيل المثال، في تحول منظمة الآسيان (اتحاد دول جنوب شرق آسيا) نحو تصميم ثلاثي الركائز (السياسية العسكرية، والاقتصادية، والثقافية الاجتماعية) بحلول عام 2015. وعلى الجبهة العالمية، قد يدرك الاتحاد الأوروبي والصين أنهما شريكان طبيعيان في ما يتصل بقضايا رئيسية. فالصين تواجه ضغوطاً متزايدة (خصوصاً من قِبَل الولايات المتحدة) لحملها على الاضطلاع بدور سياسي عالمي يتناسب مع ثِقَلِها الاقتصادي. وهنا تستطيع الصين أن تجد في أوروبا شريكاً ممتازاً، سواء في صيغة مجموعة الثلاث مع الولايات المتحدة أو في هيئة تعاون ثنائي مركز. ولنتأمل الحال في الشرق الأوسط. قد تجد الصين وأوروبا قضية مشتركة في الخواء القائم بعد أن أضعفت ثورة الطاقة المحلية في أميركا التزامها بالمنطقة. فمع تنامي اعتماد الصين على موارد الطاقة القادمة من الشرق الأوسط- 90% من صادرات المنطقة من النفط سوف تذهب إلى آسيا بحلول عام 2035- تصبح الحاجة إلى تعميق المشاركة مع الدول المنتجة للطاقة أكثر إلحاحا. ومن الممكن أن تعمل أوروبا، الجارة المخضرمة للشرق الأوسط، كشريك استراتيجي للصين في تحقيق هذا المسعى.

والآن أصبحت اليابان عملاقاً آسيوياً آخر يستعيد الثقة، بعد برنامج التحفيز النشيط الذي أطلقه رئيس الوزراء شينزو آبي. فمع الخطوات غير المسبوقة التي تتخذها اليابان نحو تحرير التجارة في إطار مفاوضات الشراكة عبر الباسيفيكي مع الولايات المتحدة واقتصادات أخرى في آسيا والأميركيتين، وفي تعزيزها لمشاركتها الإقليمية، يتعين على أوروبا أن تحافظ على علاقاتها القوية مع ثالث أكبر اقتصاد وطني في العالم. ومن المتوقع أن تعمل الاتفاقية التجارية الثنائية التي يجري تصميمها الآن على تعزيز الصادرات في كلا الاتجاهين بنسبة قد تصل إلى الثلث.

في أي استراتيجية شاملة للمشاركة مع آسيا، سوف تكون قوة الاتحاد الأوروبي على قدر القوة التي تتمتع بها بلدانه. ورغم أن المشاركات الثنائية مع القوى الصاعدة في آسيا قد تكون مغرية، وفي حين تفضل آسيا غالباً الاتفاقات الثنائية، فإن إعادة توطين السياسات الخارجية التي تنتهجها بلدان الاتحاد الأوروبي سوف تكون آلية هدّامة. فالأمر يتطلب حبلاً ثخيناً مجدولاً بقوة من أجل الإبقاء على رسوخ أوروبا مع توجهها نحو الشرق، في حين لن تتحمل الجدائل المنفصلة سوى درجة محدودة من الشد والإجهاد في السنوات العصيبة المقبلة.

* خافيير سولانا | Javier Solana ، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي سابقاً.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top