مع بداية شهر رمضان الملتهب والمليء بالتوتر، يستعد داعمو الرئيس المخلوع محمد مرسي لمعركة طويلة. فقد ملأ عشرات الآلاف منهم، إن لن نقل أعداداً أكبر بعد، ميدان مسجد رابعة العدوية والشوارع المحيطة به عشية هذا الشهر الفضيل. فراحوا يصلون، يحتفلون، ويستمعون إلى تسجيلات رجل ما زالوا يعتبرونه قائد البلد. وأقسموا على ألا يخرجوا من الشارع إلى أن يُعاد إلى منصبه.
يذكر طنطاوي محمد، جراح عام أتى إلى الاعتصام من مسقط رأسه في محافظة المنيا في الجنوب على بعد أربع ساعات تقريباً: "لا يضم الحشد جماعة الإخوان المسلمين فحسب، بل تشارك كل مصر في اعتصامنا هنا في الشارع. أعمل في مستشفى خاص. تركت زوجتي وكل أهلي في المنيا وجئت إلى هنا. وسأبقى هنا حتى يعود الدكتور مرسي إلينا". رأينا اعتصام ميدان رابعة العدوية ينمو ويتراجع مرات عدة منذ انطلاقه قبل نحو أسبوع رداً على ملايين المتظاهرين الذين نزلوا أيضاً إلى الشارع للمطالبة برحيل مرسي. ولكن يوم الثلاثاء الماضي (مع أن صداماً عنيفاً دموياً مع الجيش كان قد أدّى إلى مقتل ما لا يقل عن 51 شخصاً من داعمي مرسي في صباح اليوم السابق)، نمت هذه التظاهرة وازدادت نشاطاً، متحوّلةً إلى ما يمكن وصفه بميدان التحرير الإسلامي.اعتذر حراس غير محترفين يرتدون قبعات صلبة عن اضطرارهم إلى تفتيشنا عند الحواجز الحجرية المبتكرة التي ترتفع إلى مستوى الصدر وتقطع الطريق نحو المسجد. كان حشد من الناس يحيط بمجموعة من الرجال يرقصون في دوائر، وهم ينشدون: "مصر إسلامية، مصر إسلامية".وعندما يسجد أتباع مرسي للصلاة، يملأون الشوارع المتفرعة من المسجد لنحو مئات الأمتار في اتجاهات عدة. تتخلل الحواجز عند المداخل صفوف من المتظاهرين الذين يحاولون الدخول أو الخروج، كثيرون منهم مع زوجاتهم وأولادهم. لا شك في أن هذا الحشد بدا محافظاً، مقارنة بالحشود التي أطاحت بالرئيس، لكنه لم يختلف عنها تنوعاً من ناحية الطبقات ونمط اللباس.يذكر شاب كان يحاول دخول الميدان، واضعاً يده على ظهر الرجل الذي يقف أمامه: "يتألف هذا الحشد من نحو مئة ألف شخص". فأجابه رجل مسن بثقة، وهو يهم بالخروج: "لا، عددهم نحو مليونين أو ثلاثة ملايين".يبدو كثيرون في هذا الاعتصام في حالة صلاة دائمة. وخلال الاستراحة بعد إحدى الصلوات الرئيسة، راح المتظاهرون يصغون إلى صوت مألوف انطلق من مكبرات الصوت القديمة المعلقة على أعمدة الإضاءة، مع أننا عجزنا في البداية عن سماعه بوضوح. فدعا الرجال الحشود إلى التزام الصمت.كان هذا خطاب ألقاه مرسي قبل سنة مع بداية شهر رمضان، عندما كان لا يزال رئيساً. لكن طارق عثمان، مهندس نسيج في الثالثة والأربعين من عمره كان يقف تحت خيمة قرب شاحنة صغيرة لها صندوق مكشوف ممتلئ بالطماطم والخيار، يصرّ على أن مرسي ما زال الرئيس.أخبرنا عثمان أنه كان يثق بوزير الدفاع عبدالفتاح السيسي، الرجل الذي عينه مرسي بعيد توليه منصبه، لكنه ساهم في تنظيم انقلاب شعبي أنهى عهده. اعتُبر السيسي سابقاً من المقربين إلى مرسي. صحيح أنهما لم يكونا صديقين، إلا أنهما أكثر انفتاحاً مما قد نظن عندما نفكّر في جنرال وعضو في جماعة "الإخوان المسلمين" تعرض للقمع. ويُقال إن التزام السيسي الديني ساهم في هذا التقرب.لكن عشرات الآلاف، الذين ملأوا ميدان "رابعة العدوية" القريب من مجمّع كبير لوزارة الدفاع، يعتبرون السيسي اليوم العدو والخائن. "ثمن الخيانة الدم"، كُتبت هذه العبارة على جدران دار الحرس الجمهوري. قبل فجر يوم الاثنين، شنّ الجنود وشرطة مكافحة الشغب فجأة هجوماً على المشاركين في اعتصام ممتد أمام دار الحرس الجمهوري، أدى إلى مقتل 51 متظاهراً من أنصار مرسي وجرح ما لا يقل عن 300 آخرين.يذكر عثمان، مشيراً إلى التظاهرات الحاشدة المناهضة لمرسي التي دفعت السيسي إلى التدخل، واعتقال مرسي، وحلّ حكومته: "قتل السيسي مَن يصلون قرب مقر الحرس الجمهوري وترك المتظاهرين أمام القصر الرئاسي (في 30 يونيو). لمَ هذا التمييز؟".عبّر عثمان عن رأي يظنه كثيرون من داعمي مرسي، فهم يعتقدون أن مَن يعارضونهم نزلوا إلى الشارع بدافع الانتقام بعد أن جرى التلاعب بهم، لا بسبب رغبتهم الحقيقية في تغيير حكومة فاشلة. يضيف عثمان: "أخبرنا السيسي أنه أطاع الثورة التي أطلقها الشعب في الثلاثين من يونيو. لكن هذه ليست ثورة لأن مَن في ميدان التحرير أو أمام القصر الرئاسي هم بغالبيتهم أولاد جنود، ومسيحيون، وأتباع مبارك، ولصوص، وبلطجية. لا يمثّل هؤلاء شعبنا، هؤلاء ليسوا شعب مصر الحقيقي. الشعب الحقيقي محتشد هنا".يتبنى المشاركون في اعتصام "رابعة العدوية"، الذين حضهم قادة جماعة الإخوان المسلمين على البقاء في الشارع سلمياً حتى عودة مرسي، وجهة نظر عثمان هذه. ولكن خارج الميدان، بدأ مواطنون، ونخب سياسية، ووسائل إعلام خاصة بالتحرك. يعتبر هؤلاء أنصار مرسي "متطرفين" أو حتى "إرهابيين". نتيجة لذلك، يبدو هذان العالمان منفصلين تماماً. ويشير غياب القواسم المشتركة بينهما إلى مدى تراجع فرص المصالحة، في حين تعمل الحكومة الانتقالية راهناً على تعيين الوزراء ورسم خارطة الطريق لانتخابات تقول إن بإمكان "الإخوان المسلمين" المشاركة فيها.خارج مطعم للمأكولات السريعة، كان عدد من المتظاهرين يراقبون اعتصامهم على شاشة التلفزيون. يبتعد رجل يضع نظارات ويرتدي قميصاً أبيض ناصعاً عن الحشد للتحدث بهدوء.بما أنه أحد سكان الحي، فلم يشأ الإفصاح عن اسمه. لكنه يؤكد أن المتظاهرين المحتشدين خارج مقر الحرس الجمهوري هم مَن أشعلوا الرد العسكري المميت. فقد اندفع نحو 24 رجلاً يركبون دراجات نارية ويطلقون النار نحو حاجز للحراس في محاول لاقتحام المقر.يرفض هذا الشاب الحجة التي يطرحها مؤيدو مرسي عن أن الانقلاب الشعبي الذي يدعمه الجيش ضد الرئيس المنتخَب جريمة بشعة ضد "الشرعية".يسأل: "أما كان بإمكاننا أن نقول إن مبارك كان يتمتع بالشرعية؟ إن نزل 30 مليون شخص إلى الشارع، فماذا يعني ذلك؟ إذا رغبوا في انتخاب رجل آخر منهم، يمكنهم ذلك بعد شهر أو شهرين أو حتى ستة أشهر".لكن التسوية غير واردة في أجندة متظاهري ميدان "رابعة العدوية" ولا قادة الإخوان المسلمين، ليس علانية على الأقل.بينما دخلت مسيرة مؤيدة مرسي، حمل خلالها المتظاهرون أكفانهم ونعوشاً رمزية للتذكير بالمتظاهرين الواحد والخمسين الذين لقوا حتفهم صباح يوم الاثنين، موقع الاعتصام رفع خمسة رجال راية حملت صورة اثنين من القتلى مع العبارة: "جوبهت حركتنا السلمية بالرصاص".راقبت عائشة إبراهيم، ربة منزل تضع نظارات وترتدي النقاب مع عصابة رأس كُتب عليها "نعم للشرعية"، النعوش وهي تقترب.راحت تقول وصوتها يتهدج: "كان هذا عملاً قذراً. أطلق الجيش النار علينا ونحن نصلي. لا أخاف أحداً، فربنا حامينا".تشتكي إبراهيم من أن وسائل الإعلام الخاصة، التي تعرض اليوم لافتات كتب عليها "لا للإرهاب" و"كلمة الشعب ضد التطرف"، تنشر الأكاذيب بشأن اعتصام رابعة العدوية. فقد أظهرت أشرطة الفيديو التي قدمها الجيش ونشرتها بعض وسائل الإعلام بعد إطلاق النار قرب مقر الحرس الجمهوري صوراً لأنصار مرسي وهم يطلقون النار من مسدسات مصنوعة يدوياً ولزجاجات خمر أُخرجت من خيمهم، حسبما يُفترض.توضح إبراهيم: "أعلنت كل المحطات الفاسدة، مثل CBC، لا أريد ذكر الأسماء، أننا نملك السلاح وزجاجات خمر. على العكس، عندما تدخل وسط الناس، تلاحظ حسن سلوكهم واحترامهم وأخلاقهم العالية". وتضيف أن المفاوضات مع الجيش بعد "المجزرة" باتت مستحيلة. توضح: "بعد ما حدث؟ أبداً! أبداً! يجب أن يعود الدكتور مرسي إلى منصبه. يقولون لك إننا أقلية. هل ترى كل هذا الحشد؟ هذه هي الأقلية. عندما تغادر هذا المكان وتكتب مقالك، أخبرهم أننا لسنا أقلية".Evelyn Gordon
مقالات
حرب القاهرة الدائمة... هل تنتهي؟!
14-07-2013