اختارت الشاعرة سهام الشعشاع لقصائدها في «إنّي اختزلتُك آدماً» باباً حزيناً، فقصيدة «البداية» يحملها الموت على غيمة من غيومه السوداء، وفي ظلال كلماتها تقف الشعشاع مُنَكِّسة راية الحبّ، محاوِلة الاستعاضة عن المدن بمدُن الذكريات، معلنة أنّ وجه من نحبّ ينتقل إلى كلّ الوجوه حين يصير غياباً: «قالوا انتهينا يوم مُتّ لأنّني/ ما عدتَ تمسك كفّ أحلامي على طرق الحياة/ وأنا لأجلك قد بنيتُ/ مدائناً للذكرياتْ...». وإذا كان غصن الأمنيات قد أمسى من حصّة الموقدة حين الشاعرة تعصر زيت أنوثتها حتى الانطفاء فإنّ البكاء قصيدة لا تنتهي وعبثاً نحاول غسل حزن وجوهنا بالماء: «لكنّ غيم مدامعي/ ما بين دجلة والفرات/ يجري ليغسل كلّ حزن العاشقات»... وفي قصيدة «أعددت للموت العروس» يستمرّ الموت على قيد الحياة، وتقف الشعشاع تحت قنطرته معتمرة حزنها، حاملة على بساط صوتها مرثيّة تعاتب بمرارة العمر البخيل الذي يخطف صغيرة لم تبلغ عيناها سنّ الرحيل ولا تفهمان لغته بعد: «ما أطفأتْ بعد الصغيرة نارها/ ما قلّمَتْ زهر انتظارات الهوى/ حتّى الفراشة لم تعد/ من حقل زنبقها الطويل»...

Ad

إلاّ أنّ الشاعرة تعرف كيف تواجه الموت بإرادة الحياة، وهي في قصيدة «أنْ لقصّتنا بقيّة» تمتطي أجمل أحصنة الأمل، وترى خلف قمر ليلها قبيلة شموس تضيء خيام الصّبح: «قمر لهذا الليل يسحب ألف شمس خلفنا/ آتٍ يجرّ الصّبح كيما يحمل الدّنيا إليّ»... وتسلّم أشرعتها لرغبة الرياح فتطلّ بوجهها من النوافذ الصعبة رافعة سقف التحدّي في وجه خصم لا يُغلَب إلاّ بمزيج من من الرّجاء والصبر والكبرياء: «أعلو وأهبط/ والرياح تَسوقني/ والموت يعلم أنّني/ روح عصيّة».

ضفة الرجل

بعدما أكّدت الشاعرة حياتها، وانتصارها على الموت في شوارع غربتها انتقلت بكلّ ما فيها من أنثى إلى ضفّة الرّجل غير مفرّقة بين عذابه وبين القفير، وهي إن بحثَت عن خيانة فلن تكون إلاّ إضافة إلى الحبّ لأنّها تخون حبيبها مع رجل من الرجال الذين فيه: «... ولبستُ ثوب خيانة عذراء/ لتصير أنتَ خيانتي/ وأصير بين يديك آلاف النساء». والشعشاع لا تطلب حبّاً وردُه منزوع الشوك، وعسَلُه غير مسيّج بالنّحل، إنّما هي ترتاح لفكرة تقتات من رأسها، ولهاجس عشق يؤلم خاطرها، وترى في غدر من تحبّ طهراً كالذي تُصنَع منه السماء: «رجل الأسرّة والوسائد كلّها/ أنت العذاب الحلو في غرف الهوى/ الغدر أنت وأنت ظهر الأنقياء»...

وفي قصيدة «إنّي اختزلتك آدماً» تواصل الشاعرة العاشقة انتسابها إلى الرّجل الذي يجمع أجزاءها بما فيه من قيود، وتقيم له أعراس الانتظار بما فيها من حبّ، على رجاء أن يفتح اخضرار باب قلبها: «اليوم أشعلني الهوى/ وأنا ألملم شمل أجزائي التي احتفَلَت بأعراس انتظارك/ لأعود لغزك كلّما/ عصرَتْ قيودك معصمي/ أو كلّما منّيتُ نفسي باخضرارِكْ». وترتفع في هذا الرّجل المنتظر نسبة الرجولة إلى أن يصير رجلاً واحداً لكلّ نساء الأرض: «إنّي اختزلتك آدماً/ لنساء هذي الأرض». غير أنّ هذا المديح تعود الشاعرة إلى إرفاقه ببطاقة اتّهام، إذ ليس آدم النساء أكثر من جسد: «... تسرّب من شقوق الغيم برقاً/ دونما مطرٍ/ وأعقبَه انطفاء»، لذلك تردّ الشعشاع له قميصه، ووردتها التي ترثي ذبول أحمرها، وتتركه محاصراً بعواء ذئبتها: «خُذه قميصك/ ذئبتي تعوي عليك/ خذ وردتي الحمراء ذابلة فأنتَ/ أنت الذي أذبلتها بيديك»... والخلاص من رجل لا يجتاز الرجل فيه جسده لا يكون إلاّ بالخيانة التي تنتقم لصاحبها وتحرِّر إيمانه في الحبّ من هشاشة الأصنام: «اليوم خنتك مرّة/ لأسير فوق هشاشة الأصنام حُرّه/ ولكي أفكّ قيود أسري/ قد أخونك/ ألف مرّه».

وفي أكثر من قصيدة تبدو الشعشاع حاملة أمسها على ظهر يومها، متمسّكة بما في ذاكرتها من ذهب البراءة، وكأنّ غدها شكل من أشكال إعادة تصنيع الأمس كما يكون الجواب أحياناً بإعادة صياغة السؤال. وها هي في قصيدة «سُوَيدائي» تسترجع برق الحبّ الأوّل: «ولي فيها/ بروق أوائل العشّاق/ وتأخذني/ بما ملكَتْ من الأشواق»، وتسحب خيط طيّارة الورق من قعر الذاكرة: «سويدائي/ وما طيّرتُ من ورق/ على ذكرى روابيها»، وتستدعي الموت إلى قصيدتها حين يستدعي مدير الغيب أباها: «ويطلب أن يجيء أبي/ ولا يأتي/ يطلّ الموت من مريولتي الزرقاء/ في صور مكسّرة/ لوجةٍ كان سور حديقة وسياج»، وتقطف من مرآتها الأولى صورة أنوثتها يوم كان الحبّ لا يُحسن بناء مُدُن له: «ولم يَبنِ الهوى مدناً/ على كتفي/ ويسكنني/ من الشريان للشريان»، ليحضر ضمير المخاطب مفاجأة لغويّة وعاطفيّة: «كأن لم نلتقِِ أبداً/ لتحضنني/ وتبحر في دمي زمناً/ وتهرب بي/ إلى لبنان». وفي هذه القصيدة كما في قصائد أخرى يحضر ظلّ من ظلال الشاعر نزار قبّاني من دون أن يصادر المساحة المخصّصة لظلال الشعشاع.

خيال موجوع

على امتداد صفحات «إنّي اختزلتُك آدماً»، تحترف الشعشاع خيالاً موجوعاً، فكأنّ قصائدها شظاياها، وكأنّها حين تكتب تحاول أن تنقل الجروح من ذاكرتها إلى ذاكرة الورق، لكنّها تمضي من الرّجل وترجع إليه، فهو وحده القادر على أن يكون شفة الهوى التي تقتات منها والفارس الذي تليق بقامته القصيدة. والمشكلة، كلّ المشكلة، أنّه لا يزور إلاّ في الحنين وليس له خطو إلاّ على رصيف الانتظار: «شيطان شِعر إنّني/ أقتات من شفة الهوى/ وأعبّ من ورد الكلام/ في كلّ حضن لي بروق قصيدة/ وبنات أفكاري حرام/... لا بدّ من رجُلٍ إذاً/ كيما يعيد بصفحة المرآة ترميم الحطام».

ولم يفت الشعشاع المتّخذة من الحبّ بوصلة شعريّة أن تقف تحت سحابة قوافٍ حنون وتخاطب الشاعر بدر شاكر السيّاب متضامنة مع «جَيْكُوره»، حاملة عنه راية الحنين إلى القرية: «قلتَ اتبعيني.../ واحملي عنّي الوصيّة/ وخذي نداء الموت بعدي/ بعد اللقاء نمرّ في نهر العذارى/ ونردّ ذكرى الريف من ليل الخيال»... ومن السيّاب تولّي القصيدة وجهها قِبلة الشاعر محمد الماغوط الذي تُلبسه الشعشاع عباءة الأب وتشدّ أصابع يمناه على عصا النبوءة: «قم يا أبي.../ نحتاج منك قيامةً أخرى/ لننهض من سبات خرابنا/ ونُحيل تربتنا ذهب».

من خلال جديدها «إنّي اختزلتك آدماً» تثبت الشاعرة سهام الشعشاع أنّها ذات قافية خاصّة، وأنّها تكتب المرأة التي فيها بحرّية عصفور قبل أن يولد الصيّاد، بعيداً من عقدة الرّجل الذي تتفرّغ الكثيرات من شاعراتنا لهجائه باعتباره وريث شهريار الذي لا يموت.