أي حديث عن شعرنا الراهن سوف يقودنا لا محالة إلى مسألة «الغموض» و»الضبابية» التي باتت ترين على المشهد الشعري وتتكرس كظاهرة من ظواهره. ويقيني أن مسألة «الغموض» في نماذجها المعقولة –وليست نماذجها الضاربة في التغريب والشطح– تُعدّ ملمحاً من ملامح السبق والتجاوز، وهو هدف المبدعين الأول في كل العصور.
ويبدو أن الشاعر في وقتنا الراهن لم يعد أمامه من آفاق فنية إلا أن يجرّب في «اللغة»، وإلا أن يكابد ويجاهد من أجل البحث عن «لغة جديدة»، خاصة بعد أن استهلك الزمن الأدوات الشعرية التي كانت طليعية، كالأسطورة، والقناع، والمرايا، والرمز، وتوظيف الموروثات الشعبية والدينية، والشخصيات التاريخية... إلخ.لقد كان الشاعر قبل ثلاثة أو أربعة عقود يناضل على جبهتين: البُعد الإيديولوجي الذي ينتظم قضايا النص وموضوعاته، والبُعد الفني الذي يفكك الشكل العروضي ويعيد بناءه. أما الآن فقد أضيف إلى هذين البُعدين بُعد ثالث وهو بُعد «اللغة» وتجلياتها، والتعويل على كونها غاية بحدّ ذاتها، وليست وسيلة توصيل أو ظهراً للامتطاء. كذلك الوعي بكون اللغة كائناً حياً، ينمو ويتغير، ويمتلك ديناميكية التمرّد على القولبة والتنميط.إن صناعة «لغة جديدة» تستدعي كسر اعتيادية الجملة الشعرية، وكسر أفق توقعاتها، وتحطيم المتداوَل والمألوف من لغتها وإيقاعها. وهذا لا يتمّ إلا بالتجرؤ على تفكيك العلاقات اللغوية، وتغيير سياقات الجملة، واستحداث تراكيب غير مألوفة، بل حتى التجرؤ على بعض القواعد الصرفية والأسلوبية والاشتقاقية. وهذا كله يصدم المتلقي غير المثابر على مواكبة هذه الرؤى الطامحة، وينفّره ويخيفه.ولعل من فضلة القول أن نؤكد أن شعر المرحلة لم يعد شعراً خطابياً منبرياً، ولم يعد يقيم كبير وزن للغة الجهورية الصاخبة أو المباشرة، بقدر ما يحتفي بعمق اللفظة ودهاليزها الغائمة وإيماضاتها البعيدة، وقدرتها على التفجّر والانتشار. وهذا الأمر يتطلّب متلقياً واعياً يقظاً، أكثر من تطلّبه إلى مستمع في مسرح تصله غايات القصيدة على جناح من زغب.وبذلك نعترف أن جمهور الشعر أصبح جمهوراً صغيراً وخاصاً ونخبوياً، وهذا يُعدّ من الملامح الصحية لأي مرحلة تطورية، حين يحتاج المتلقي إلى فترة هضم واستيعاب قد تطول أو تقصر.وبالعودة إلى سياق سيرتي الشعرية أقول إن مجموعة «مجرّة الماء» كانت هي مجال سباحتي في كل هذه المفاهيم «للشعرية الجديدة»، التي استقيتها من التجربة الذاتية أو المعرفة العامة. ويبقى كذلك أن هذه المجموعة جاءت لتمثل حالة نهائية من التوازن الشعوري والفني إزاء شكلي الشعر المنثور والموزون.فعلى قدر ما كانت قصيدة النثر في مجموعة «طقوس الاغتسال والولادة» منداحة في آماد الفضفضة والإفاضة والتشظي، -وكلها سمات نفسية وفكرية أكثر منها فنية كما سبق أن ذكرتُ- ، أتت نثريات «المجرة» ملتمّة ومكثّفة ومُبأرة، لتعبر عن ملامح نفسية وفكرية بهذه السمات. وهذا ما تمثله نصوص مثل: «جوع»، «ما»، «نجْد»، «غِبْ»، «نصف تفاحة»، «أبرقْ»نموذج «1» :لنْ أقفَ بالنافذة / لأستطيلَ بشارتكغِبْ / لتهتزّ شجرتي / ويأتيني الطير«نموذج 2» :أهشُّ غنمات شعري / مهرولةً نحو المرعى / لتسمنَ ويشخبَ الحليب في فميأهشّها / لتحبلَ بالأجنة / والصوف / قبل أن ينقضي «شميمُ عرارك» يا نجْدي!أما بعد، فإن مرور مرحلة زمنية تنوف على عقدين من الزمان، هي عمر النصوص المتناثرة عبر ثلاث مجموعات شعرية: «الإنسان الصغير»، «طقوس الاغتسال والولادة»، «مجرّة الماء»، لها أثرها ولا شك في إنضاج التجربة الشعرية وتشكيل الإنسان الكامن وراءها، ورفده بروح المغامرة وغوايات التجريب.لكنني لا أملك في «مختصر السيرة الشعرية» هذه إلا أن أقصّ وأروي نثار حياة، وظلال تجربة فنية، بكل ما فيها من هِنات وارتباك وضعف إنساني. أما قياس مساحة هذه التجربة ومدى وجاهتها فمتروك أولاً وأخيراً للقارئ الذي تجشّم عناء الوصول إلى آخر نقطة في السطر.
توابل - ثقافات
مقاطع من سيرة شعرية (12)
16-04-2013