تضمّ مكتبة المركز أكثر من 50 ألف مجلد، وألف مخطوطة أصلية يعود أقدمها إلى القرن الخامس عشر الميلادي، بلغات أجنبية، من بينها اللاتينية والسريانية واليونانية، كذلك تضم أحد أقدم كتب الصلاة المسيحية الذي يعود إلى القرن الثالث عشر، بالإضافة إلى أقدم أطلس لمصر وضع في عشرينيات القرن الماضي.

Ad

تصطف المخطوطات الإسلامية الأثرية قرب المخطوطات المسيحية، في تناغم يعكس تنوعاً ثقافياً ضمن المكتبة التي تزخر بمراجع تتناول الحضارة الفرعونية، من ضمنها أحد أقدم المخطوطات التي رسمها الفنانون للآثار الفرعونية، ومجموعة ضخمة من أقدم الموسوعات الثقافية والعلمية على مستوى العالم، يمكن الاطلاع عليها مجاناً ونسخها إذا تطلب الأمر.

تستقبل المكتبة الزوار أربعة أيام في الأسبوع، من الثلاثاء إلى الجمعة، من التاسعة صباحاً وحتى الثالثة بعد الظهر.

الراهب منصور

ينتصب تمثال السيدة العذراء شامخاً في مدخل المركز، بينما تقابله منحوتة فرعونية ضخمة تمثل اللغة الهيروغليفية، وفي الممرات صور للعذراء تجاورها صور لتماثيل فرعونية، تعكس عشق أهل المكان للحضارة المصرية القديمة، بقدر إيمانهم بالعقيدة المسيحية.

الراهب منصور مُستريح (يقترب من عامه الثمانين) مسؤول عن المركز منذ أكثر من 50 سنة، منذ جاء من قرية اليعقوبية في سورية، ليقدم خدمته كراهب كاثوليكي في مصر.

يقول: {شُيد هذا المكان في القرن السادس عشر وكان مقراً لسفارة البندقية، ومع بدايات القرن العشرين تحوّل إلى أول مركز لتجمّع مهاجري أوروبا في مصر، وشهد ازدهاراً حتى الحرب العالمية الأولى، إذ ظهر بعدها عداء تجاه الأوروبيين، وكان الانهيار التام بعد العدوان الثلاثي، فأصبح الدير بلا رعية، بعد رحيل معظم رعاياه الأوروبيين، عندها حوّله الرئيس محمد نجيب إلى مكتبة تقدم خدماتها للباحثين، لما تحتوي عليه من مراجع أثرية بلغاتها الأصلية، وقد افتُتحت عام 1954}.

الأب منصور، مترجم معتمد من الجامعات المصرية ومنطقة الشرق الأوسط، ومعترَف بترجماته للمخطوطات اللاتينية. يقدم خدماته لطلاب الجامعات والباحثين، ويترجم الصفحات التي يحتاجون إلى ترجمتها في أبحاثهم.

يضحك ببشاشة وهو يردد: {أسعد بترجمة هذه الصفحات وأعكف عليها على مدى ساعات، وهي الخدمة التي جئت من أجلها منذ 50 عاماً، وتقوم على مساعدة الطلاب والباحثين والمثقفين في الاهتمام بالحقبات: البيزنطية والحملات الصليبية، تاريخ أوروبا في القرون الوسطى}.

عن مقتنيات هذه المكتبة، يتحدث الأب منصور بفخر، لافتاً إلى أضخم موسوعة في الشرق الأوسط، وربما في العالم، وهي تضم أسماء ومعلومات عن أغلب الشهداء والقديسين الذين عرفتهم المسيحية في العصور الأولى.

ثم يضحك ويتندر على بعض محتوياتها قائلا: {لا تتضمن هذه الموسوعة الضخمة أي دليل علمي على وجود القديس جرجس، أشهر شهداء العقيدة المسيحية في العالم، إلا أنه ضُمّ إليها بناء على إيمان البشر به، كذلك تُضمّ شخصيات جديدة إلى الموسوعة، كل فترة، شرط أن يمرّ على وفاتها 50 عاماً، ويتم الحديث عن كراماتها وعطائها للمسيحية بصورة شعبية، أو أن يكون ثمة سند علمي أو وثيقة تحكي عنها وعن إسهاماتها».

رغم ما تحويه مكتبة «مركز الفرنسيسكان للدراسات الشرقية المسيحية» من علم وتاريخ،  فإن الإقبال عليها شبه منعدم، باستثناء فترة الدراسة الجامعية، إذ يقصدها طلاب الكليات المهتمة بالتاريخ والعقيدة للحصول على مراجع تفيدهم في أبحاثهم، ويظل الزوار أقل من عدد أصابع اليد كل يوم.

إرث ثقافي لا مثيل له

مدحت شاكر الذي يعمل أميناً للمكتبة منذ 23 عاماً، يتحدث بدوره بفخر عما تمتلكه المكتبة من تاريخ أمم وشعوب لا مثيل له في أي مكتبة أخرى، يقول: {تعرضت المخطوطات في ما مضى لمحاولات سرقة أو تمزيق، لذا عمدنا إلى تصويرها وإتاحة النسخ للجمهور، بينما احتفظنا بالنسخ الأصلية في خزائن مغلقة للحفاظ عليها}.

يضيف: {رغم أن المركز يقدم خدماته للجمهور مجاناً، إلا أنه يخصص سنوياً حوالى 10 آلاف جنيه لشراء كتب ومجلات حديثة لتزويد المكتبة بكل ما هو جديد}.

حين ينهي الطالب أو الباحث دراسته، يرحل وربما يعود مرة أخرى، ليجد آلاف الكتب على الأرفف في انتظاره من دون أن يستخدمها أحد، الأمر الذي يُحزن الراهب فينجينسو الملقب بـ {الأب منصور الإيطالي}، نظراً إلى جنسيته الإيطالية، وقد جاء إلى مصر عام 2007 لتقديم خدماته في مكتبة الدير، وهو مساعد للأب منصور مستريح، إلا أنه يستطيع، لصغر سنه، الإشراف عليها بصورة أكبر والتعاون مع الباحثين.

يقول الراهب فينجينسو: {بدأت خدمتي في قبرص وزرت بلداناً عدة ولا أعرف إلى متى سأظل في مصر، ولكن تقديم العلم والثقافة للآخرين، أساس خدمتي وعملي كراهب فرنسيسكاني}.

يضيف: {أسعد بوجود باحثين يطلعون على مراجع بلغات أجنبية، ونساعدهم في ترجمتها والاستفادة منها، فضلا عن أن الجيران المحيطين بالدير يحبون وجودنا، نظراً إلى الخدمات المجانية التي نوفرها قدر استطاعتنا}.

يتابع الراهب حديثه بفخر عن أقدم أطلس في مصر، يعود إلى العشرينيات، ويضم خرائط من دون السد العالي، بالإضافة إلى مجلدات لرسوم، تعود إلى القرن السابع عشر، وتروي قصصاً عن العقيدة المسيحية.

يبقى دير {الموسكي} بارزاً نظراً إلى تميز عمارته، وبينما يقف شامخاً وسط منطقة تعد الأكثر ازدحاماً في القاهرة، يجهل كثيرون ما يحتوي عليه من ثروة ثقافية، ولا يقبل عليه غير الباحثين، بينما يقدم مادة علمية وثقافية تُثري مجالات مختلفة، تكفي زيارة واحدة للتعلق بهذه الجدران التي تحوي قصصاً عن الحروب وصلوات القديسين.