استيقظت اليوم وفي قلبي فرحة عارمة وسعادة طاغية بدت على وجهي إشراقاً وابتسامة كبيرة... نسيت أن أقول لكم... اليوم هو أول يوم لي في المستشفى في أول أيام «سنة رابعة في الكلية» مع بداية الدراسة الإكلينيكية ومخالطة المرضى... اليوم أحسست أنني شخص مهم، وأن الجميع سينتظرونني على باب المستشفى... تمنيت ذلك أو تخيلته أو شعرت به... لا فرق، ولكن ها أنذا أقف أمام باب المستشفى ولا ينتظرني أحد، بل لا يشعر أحد بوجودي أساساً... لماذا... كيف هذا؟!

Ad

بدأت يومي باستيقاظي مبكراً عن موعدي فقد كنت قلقاً طوال الليل أتعجل انقضاءه لتشرق الشمس ويأتي النهار وأذهب سريعاً إلى المستشفى... نزلت من القطار في محطة الدمرداش ودخلت من الأرض الفضاء خلف المحطة وسرت وسط القصور الفخمة التي تعكس نوافذها الزجاجية الملونة أشعة الشمس الذهبية فيبدو الضوء كقوس قزح في السماء وتجلس النساء في الشرفات يستمعن إلى موسيقى بيتهوفن الكلاسيكية**.

هكذا كان كل شيء في صباح هذا اليوم جميلاً مشرقاً، وكنت سعيداً جداً تسبقني فرحتي في الوصول إلى المستشفى... وصلت إلى هناك... أبطأت السير كي يراني الجميع... وقفت ونظرت إليهم لم يلتفت إليَّ أحد... تأكدت أنني لست أكثر من رقم من مئات عدة من الطلاب يدخلون المستشفى يومياً... لا بأس إن غداً لناظره قريب... يوماً ما سيتغير الحال... «هكذا حدثت نفسي».

صعدت الدرج وصلت إلى الممر الذي ينتهي بقاعة الدرس... سرت ببطء شديد متلفتاً يميناً ويساراً كمن يستأجر عقاراً جديداً... أفتش في كل حجر... أخاطب كل جدار... أدخل إلى كل حجرة... أنظر إلى الممرات، المشهد يتكرر الحجرات متشابهة وساكنوها متماثلون... قد يختلف العدد من حجرة إلى أخرى هنا 4 وهناك 3 وفي أول حجرة 7 وهكذا... المرضى بجلابيبهم البيضاء فوق الأسرة الحديدية، منهم النائم والمستيقظ لتوّه، ومَن يتناول فطوره، أو قد انتهى منه... منهم من جاء أمس ومن مضى عليه أسابيع... هذا من الشرقية وآخر من الإسكندرية وثالث جاء من أقصى الجنوب من أسوان... جميعهم في حجرة واحدة... ولكن وراء كل منهم بالتأكيد قصة طويلة مختلفة ربما مع المرض... أو مع الأهل... أو مع الحياة ذاتها!

جاؤوا جميعاً من أجل هدف واحد، وهو العلاج والاستشفاء في المستشفى... ولكن هل يتحقق لهم هذا الهدف؟ هل يصلح هذا المكان للعلاج؟ هل هذا المكان يجب أن يكون مستشفى أم يكون شيئاً آخر؟ هل هؤلاء أصحاب الرداء الأبيض ملائكة رحمة أم شياطين عذاب؟ هل.. وهل... وهل؟... راودتني كل هذه الأسئلة، ولم أعرف إجاباتها وأنا أخطو خطواتي الأولى في طريق طويل رأيت بدايته ولا أعرف نهايته... ولكن بالتأكيد يوماً ما سأعلم كل هذه الأجوبة وغيرها كثير...

(من أمام مستشفى الدمرداش 1 - 10 - 1978)

** هذه المنطقة كانت تسمى «عشش المحمدي»... وهي إحدى أكثر مناطق القاهرة عشوائية وفقراً- قبل إزالتها في التسعينيات- وكانت النساء يجلسن فيها أمام «العشش» لا يتوقفن عن المشاجرة والسباب والصراخ والنداء على أطفالهن.