أدى باراك أوباما اليمين الدستورية كرئيس لولاية ثانية وهي فرصة سنحت فقط لـ16 رئيساً من قبله، وعندما يدخل المكتب البيضاوي ثانية فإنه سيكتشف سلسلة عريضة من المشكلات تتباين من الصراعات الداخلية حول سقف الديون الأميركية والسيطرة على السلاح إلى النزاعات الأكثر دموية في مالي وسورية. وسيتسم الرئيس الأميركي باراك أوباما بالحكمة إذا ركز الآن وأكثر من أي وقت مضى على الأجل الطويل، فهو لن يترشح للرئاسة مجدداً... فكيف سينظر التاريخ إليه؟

Ad

نأمل أن تكون النظرة أكثر إيجابية، إذا جرى تقييمه والحكم عليه من خلال أدائه في السنوات الأربع الماضية، ولا ينطوي هذا على استبعاد إنجازات فترة رئاسته الأولى لأن قلة فقط من الرؤساء تعرضوا لمثل هذه الخلفية القاتمة في ظل انكماش الاقتصاد بنسبة 5 في المئة سنوياً، وإلغاء الوظائف بمعدل 800 ألف فرصة عمل شهرياً، وتورط أميركا في حربين فاشلتين. لقد حقق أوباما عملاً رائعاً في وضع مريض منهك للغاية على طريق التعافي والشفاء. وربما يساعد إنجازه التشريعي الرئيسي- المتمثل بإصلاح الرعاية الصحية- الملايين من الأميركيين على الرغم من أن ذلك سيتطلب الانتظار حتى تنفيذه بشكل تام، وقد ساهم ذلك كله ومع وجود خصم غير مقنع في إقناع ما يكفي من الأميركيين- وهذه المجلة- لتأييده في شهر نوفمبر الماضي. غير أن فترة رئاسة أوباما الأولى لم تقارب ما يكفي من النجاح لإضفاء صفة العظمة عليه أو لحمايته من احتمالية انزلاقه في فترة رئاسية ثانية تكون كارثية إلى حد يبدد كل ما تحقق.

المصير المجهول

سترسم الأحداث، ولو بشكل جزئي، طبيعة إرث أوباما الذي سيتركه من خلفه، فعندما جلس جورج دبليو بوش الابن ليتلو على أطفال المدارس في ولاية فلوريدا في 11 سبتمبر من سنة 2011 قصة "الحرب على الإرهاب" لم يكن ذلك جزءاً من مفرداته. وقد يتعرض باراك أوباما إلى حالة مماثلة من المجهول، غير أن بوش الابن غالباً ما كان يوصف بأنه الرجل الذي تمكن من توسيع الحكومة بقدر يفوق أي رئيس آخر منذ ليندون جونسون وكان ذلك إرثا في وسعه تفاديه، ولكن جورج بوش الابن سيذكر أيضاً بما حققه من إحداث زيادة دراماتيكية في حجم المساعدات إلى إفريقيا وتحسين نوعيتها.

الرأسمال السياسي، مثل وقت وطاقة زعيم، يعد مورداً نادراً وهناك قائمة واسعة ومطولة من المجالات التي يستطيع أوباما إنفاقه بصورة مفيدة ومجدية. ولا شك أن إصلاح قوانين الهجرة سيكون هدية رائعة يقدمها لأميركا قبيل مغادرته، علاوة على إقامة منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بما يعمل على مساعدة الغرب بأسره.

لكن من وجهة نظرنا ثمة 3 قضايا كبرى بارزة من المرجح ألا تجلب فوائد واسعة النطاق إذا تمكن من إيجاد حلول لها، غير أنها من المؤكد أن تلحق ضرراً جسيماً بإرث أوباما إذا ما أُهملت.

القضية الأولى: ترتيب البيت المالي

الجانب الأكثر أهمية هو ضرورة قيام الولايات المتحدة بترتيب بيتها المالي. في عام 2010، لم يكن الأدميرال مايك مولن الذي كان رئيساً لهيئة الأركان المشتركة حينذاك، مبالغاً عندما قال إن ديون أميركا تمثل أكبر تهديد استراتيجي يواجه البلاد. ومنذ ذلك الوقت أضيفت إلى الديون الأميركية 3 تريليونات من الدولارات ما رفع الإجمالي إلى أكثر من 16 تريليون دولار. ويرجع الجزء الأكبر من ذلك إلى الركود الاقتصادي وإلى المحفزات المالية الرامية إلى مواجهته ومحاربته، ولكن بحلول نهاية هذا العقد ومع ازدياد أعداد المتقاعدين الأميركيين سيزداد العجز المالي بشدة، وإذا قام أوباما بتسليم البلاد وهي تتجه نحو الإفلاس في يناير من سنة 2017، فعليه أن ينسى فكرة أن يتذكره الأميركيون بأنه كان "منقذاً اقتصادياً".

وبعد أن تجاهل أوباما توصيات لجنة العجز المالي التي عمد بنفسه إلى تشكيلها، فإنه لم يقدم أي إشارة مطلقاً- باستثناء بعض التصريحات الرنانة- حول جدية خفض "المخصصات المستحقة": وهذه عبارة عن المعاشات المقدمة للمتقاعدين ونماذج الرعاية الصحية الحكومية التي تقدمها الدولة للفقراء والمسنين التي ستطغى على الميزانية مع تقدم السكان في العمر واستمرار ارتفاع التكاليف الطبية بشكل لا يمكن السيطرة عليه.

وبعيداً عن إصلاح نظام "المخصصات المستحقة" عمد أوباما إلى إضافة عنصر مكلف جديد في ولايته الأولى تمثل بتقديم دعم التأمين الصحي للعمال ذوي الدخول المتدنية. وقد تفادى الرئيس أوباما تقديم أي تنازل أو خفض لذلك الدعم خلال الاتفاق الذي تم التوصل إليه في الأول من شهر يناير للحيلولة دون انزلاق الولايات المتحدة في الهاوية المالية، وذلك على الرغم من تصديه العنيف للجمهوريين في الكونغرس بغية قبولهم بزيادة الضرائب على الأغنياء.

إن أميركا التي تعجز عن التعامل مع مشاكلها المالية بدون التعرض لأزمات متكررة وتأجيلات واهنة لها ستتعرض لإفلاس في نهاية المطاف. كما أن قدرتها على طرح نفسها لزعامة للعالم ستتراجع حتما بصورة خطيرة- فلماذا سيرى القادة في بكين وبرازيليا وبوغوتا وحتى برلين أي شيء يمكن مضاهاته في واشنطن؟ وإذا قام الرئيس أوباما بإصلاح هذا الأمر فسيعتبر شخصية مؤثرة وقادرة على الفعل والتغيير، وإذا لم يفعل فستنظر أجيال المستقبل إلى الوراء لتجد في "سنوات بوش- أوباما" زمناً قام خلاله الرئيسان بتكديس كومات هائلة من الكوارث على عاتق البلاد.

القضية التالية... المشاركة:

في ضوء المشكلات التي تواجهها أميركا، يشدد البعض على "بناء الأمة في الداخل"، كما يحلو للرئيس أوباما أن يقول مؤكداً حتمية ذلك، لكن عالماً تتحول فيه أميركا نحو الداخل سيكون مليئاً بالمفاجآت غير المتوقعة وأقل أماناً. كما أن لدى الرئيس أوباما الكثير من الأعمال والمسائل التي لم ينجزها في الخارج خلال فترة ولايته الأولى. ورغم كل ما يقال بشأن إعادة ضبط العلاقات والحوار والتفاهمات، فإن إيران تقف على عتبة التحول الى دولة نووية، وروسيا تتسم بالعدائية، وأوروبا مهملة، والتوتر في الشرق الأوسط يبلغ أعلى درجاته، والحروب الدموية في العراق وأفغانستان لم تحقق الانتصار ولا الاستقرار.

وهذه الحصيلة كبيرة بالنسبة إلى طاقة أي إنسان، لكن ثمة مجالين يتعين على الرئيس أوباما التركيز عليهما وتحقيق تقدم فيهما خلال فترة ولايته الرئاسية الثانية؛ المجال الأول هو الصين، فليس ثمة علاقة ثنائية في العالم أكثر أهمية بالنسبة إلى واشنطن من بكين التي قد يتجاوز اقتصادها نظيره الأميركي في سنة 2017. وقد تمكن الرئيس أوباما خلال ولايته الأولى من تفادي أي كوارث كبيرة في هذا السياق، لكن في الوقت الراهن أخذت الخلافات تحتدم... وعلى الجانب السلبي شرعت الصين بنزعتها القومية الواثبة في مضاهاة مملكة بروسيا (معظم ألمانيا حالياً) قبل قرن من الزمن؛ فهناك احتمالات حقيقية لنشوب صراع بين الصين واليابان، حليفة واشنطن، حول جزر سينكاكو بصورة تدعو للقلق. غير أن في وسع أوباما تحويل علاقات الارتياب المتبادلة بين الصين والولايات المتجدة في قمة "مجموعة الاثنين" G2 إلى مسألة أكثر فائدة؛ مثل التوصل إلى اتفاق حول التغيرات المناخية وتأثيراتها على البيئة.

لم ينتهز أوباما الفرصة لرؤية الزعيم الصيني الجديد زي جين بينغ رغم وجوده في السلطة منذ أكثر من شهرين مع العلم أن الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند سارع إلى لقاء مستشارة ألمانيا في يوم تنصيبه. سيظل الرئيس الصيني في الحكم طوال فترة حكم الرئيس الأميركي وسيستمر بعدها بست سنوات من مغادرة أوباما البيت الأبيض، لذا فإن عقد قمم متكررة ولقاءات ثنائية على المستويات كافة سيكون أمراً ضروريا ومهما بالنسبة إلى الجانبين، ولاسيما أن العلاقات العسكرية بين الجانبين أصابها الفتور تحتاج إلى ترميم. ولاشك أن العودة إلى التقارب الشخصي- مثلما كانت الحال بين الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وزيانغ زيمين في التسعينيات- يمكن أن يحمل آمالاً جيدة وإن كانت طبيعة أوباما المتحفظة بحاجة إلى دفعة للأمام في هذا الإطار، ويبدو أنه يتعين على أوباما أن يمضي بعض الوقت في ممارسة لعبة الغولف في الحديقة الإمبراطورية (زونغنانهاي) وسط العاصمة الصينية.

المنطقة الخطرة

القضية الثالثة والأخيرة التي سيُحكم من خلالها على أداء أوباما هي العالم العربي بما يتضمنه من مخاطر؛ فهناك كارثة القضاء على حل الدولتين بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي إذا حدثت ستؤتي على إرث أوباما بالكامل. هذا بخلاف الربيع العربي الشائك الذي ربما لن يستطيع السيطرة عليه، لكن بوسعه أن المساعدة في توجيه دفته على نفس الوتيرة التي قاد بها بوش الأب حقبة نهاية الحرب الباردة، وهناك أيضا سورية التي تخرج عن السيطرة، وربما تخضع دول مثل مصر وتونس لحكم الإسلاميين لكنهما دولتان ديمقراطيتان في الوقت الراهن وفي حاجة ماسة إلى المساعدات المالية، فإذا تمكن أوباما من أن يترك تلك المنطقة وبها "نماذج مصغرة" من تركيا، فإن ذلك سيكون بمنزلة إنجاز ملفت سيضاف إلى رصيده، فلم يعد بمقدور أوباما إظهار لا مبالاة أو تردد إزاء تلك المنطقة الخطرة أثناء ولايته الثانية مثلما فعل في الفترة الأولى.