مأزق المرأة الشاعرة (6)
العودة إلى أسماء الشواعر الثلاث: وردة اليازجي، وعائشة التيمورية، وباحثة البادية، وتأملنا المتأني في شعرهن القليل المتفرّق سوف تعيننا على استنتاج جملة من سماته، غير قلّته وتبعثره وندرة الدارسين له. أول تلك السمات هي ثباته عند الأغراض النسوية النمطية التي تأسست منذ العصر الجاهلي والمحصورة بالأمومة والرثاء. ولعله لا يضير أولئك الشواعر استمرارهن بمقاربة هذه المشاعر الإنسانية اللصيقة بتكوين المرأة لو اجتهدن في البحث عن نوافذ تعبيرية أخرى تجدد المشهد القديم وتلوّنه، أو تخرجه من السكونية والاجترار. إن نظرةً فاحصة لنماذج من رثاء وردة اليازجي لابنها (أمين) أو عائشة التيمورية لابنتها (توحيدة)، سوف تعيدنا لا محالة إلى مشهد مألوف من مشاهد شعر الرثاء، حيث العرض المباشر لمشاعر الحرقة واللوعة، وعذاب الفراق ومرارة الفقد، ناهيك عن المناجاة للميت، والحَوَمان حول خيالاته الهاربة وتذكر خصاله وشمائله. كل ذلك في قوالب غنائية مفجعة، نائحة الوقع، رتيبة الترديد في ألفاظها وموسيقاها.
وتأتي السمة الثانية للشعر النسوي في هذه المرحلة تفريعاً وتأكيداً للسمة الأولى سالفة الذكر، ونعني بها الدوران حول التقليد، ليس في الأغراض فقط وإنما في اللغة والتعابير التراثية وروح القصيدة الكلاسيكية عامةً. بل أن تقليد عائشة التيمورية لا يقف عند هذا الحد، وإنما يتجاوزه إلى الصنعة والتكلف والاشتغال على منظومات من التخميس والتشطير والمعارضات، وكلها جهود تنتمي إلى الألعاب اللغوية والصنعة المفتعلة أكثر من انتمائها إلى الفن والموهبة التلقائية.وهذا التلكؤ والتردد عند ظاهرة الألعاب اللغوية وصنعة البديع والبيان، وهي أثر من آثار عصر الانحطاط الأدبي، أمر يستدعي التساؤل حين نتذكر أن وردة وعائشة وباحثة البادية كن معاصرات لحركة شعرية كانت تطمح إلى تجديد المشهد الشعري واستحداث لغة عصرية تعبر عن قضايا الحياة وحركة المجتمع. صحيح أن حركة الإحياء التي عاصرتها أولئك الشواعر كانت ما تزال تناور وتتلكأ حول القيم التراثية الفنية المتعلقة بالأغراض الموروثة وموسيقى الشعر واللغة، إلا أن اندفاعات البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والرصافي والزهاوي وغيرهم كانت في نماذجها المتميّزة متطلّعة إلى التجديد والمواكَبة، واستطاعت إلى حد ما أن تخلق لنا مشهداً مغايراً لعصر الانحطاط والصنعة . فأتت بشعر التجربة الذاتية (البارودي)، والشعر المسرحي والقصصي (أحمد شوقي)، والشعر الاجتماعي (الرصافي)، والشعر الوطني (حافظ إبراهيم)... إلخ . لذلك فإن التساؤل حول تحرّز الشواعر من المساهمة في هذا الواقع الشعري الجديد والتناغم مع زخمه وجاذبيته يبقى سؤالاً معلّقاً وملحّاً! هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار معاصرة أولئك الشاعرات لحركات الإصلاح والتحرر الطليعية، ومعايشتهن لرموز التنوير ودعاوى النهوض بالمرأة، ناهيك عما أتيح لهن من فرص التعليم والتثقيف والانتماء إلى أوساط أسرية واجتماعية مشجعة، هذا إلى جانب اشتغالهن بالتدريس والتأليف والكتابة الصحافية. أما السمة الثالثة عند شاعرات هذه المرحلة فتتبدى في تبني القيم الشعرية الذكورية والنسج على منوالها، إن لم نقل الدخول معها في سجال محيّر! وقد تتحول هذه الميول في تقليد النص الفحولي إلى لون من الممالأة والمسايرة للجو الاجتماعي السائد، مما يوقع الشاعرة في الكثير من المآزق. ولعل الأطرف من ذلك أن ممالأة الذكورة والإقرار بقيمها والسير في ركاب أعرافها الفكرية والفنية يتجاوز ما ذكرناه إلى قضايا نسوية صرفة، كقضايا الحرية والحقوق، والسفور والحجاب والتعليم وغيرها. إن لجوء المرأة الشاعرة إلى التقية والتحرّز والتردد إزاء قضاياها النسوية التي كانت بضاعة العصر وحديث الساعة يبدو أمراً لافتاً! ففي الوقت الذي يدشن فيه قاسم أمين مشروعه الطليعي حول الدعوة إلى الاعتراف بإنسانية المرأة وحقها في التخلص من الأعراف البائدة والمشاركة في الحياة، ويدعو بحرارة إلى العودة إلى حدود الحرية التي أباحها الشرع وهي إزالة النقاب وكشف الوجه، نرى شاعرة معاصرة له مثل عائشة التيمورية تنقُضُ هذه الدعوة وتقوّضها، وتقرّ (بوجاهة) القيود، والحرص على أعراف اجتماعية تُبقي المرأة في خانة التغييب والإقصاء! وما دفاعها عن (الخِدْر) و(الحِجْل) و(النقاب) إلا صورة نموذجية لهذا التوجّه: ما ساءني (خِدري) وعقد عصابتي وطراز ثوبي واعتزاز رحابيما عاقني (حِجلي) عن العليا ولا سدل الخمار بلمتي و(نقابي)!