في مديح خيانة الوصايا

نشر في 12-04-2013 | 00:02
آخر تحديث 12-04-2013 | 00:02
نقل بعض وكالات الأنباء أنه عُثر في منزل متداعٍ في نيويورك على رسوم ولوحات للفنان الأميركي المغمور آرثر بيناجيان (1914 – 1999)، تُقدّر قيمتها بنحو 30 مليون دولار، وتضم لوحات تجريدية ومناظر طبيعية وتخطيطات من الحرب العالمية الثانية.
كان بيناجيان أوصى برمي أعماله في القمامة بعد وفاته، لكن أمنيته لم تتحقق وظلت لوحاته ورسومه مركونة في منزله يتراكم عليها الغبار، إلى أن ابتاع المستثمران الأميركيان توماس شولتز ولاري جوزيف المنزل المتداعي بنية ترميمه وتجديده ثم بيعه، فاكتشفا الكنز المدفون.

 كان بيناجيان يرسم كل يوم، إنما لم يرَ أحد فنه الذي ينتمي إلى تيار الفن التعبيري ولم ينتقد أحد عمله، ولم تُعرض له لوحة أو رسم في غاليري. قال جون ارمينيان، ابن أخت الفنان لصحيفة «نيويورك تايمز» بعد العثور على اعماله، إن خاله كان يعتقد أنه سيكون «بيكاسو آخر» وسيصبح شهيراً ويعيش مع شقيقته التي كانت تعمل سكرتيرة حياة مرفهة بعد ذلك، لكن أحلامه لم تتحقق «فأُصيب بالإحباط وزهد بكل شيء وكان لا يفعل شيئاً سوى الرسم».

وصايا لم تنفذ

تشبه حياة بيناجيان حياة كثير من الكتاب الذين لم يطبعوا كتبهم أو الرسامين العالميين الذين عاشوا الفقر ولم يبيعوا لوحة في حياتهم، من بينهم الفنان الهولندي فان غوغ الذي لم يكن في استطاعته بيع أيّ من أعماله في حياته (باستثناء لوحة واحدة)، وفي الوقت الذي انتحر فيه، كانت لوحاته تُعتبر بلا قيمة أو أهمّية، لكن بعد رحيله صارت أعماله بأسعار خيالية.

السؤال هل يتحول بيناجيان {أسطورة} فنية جديدة، ولماذا لم يلجأ إلى رمي لوحاته بنفسه في القمامة؟ لماذا ترك وصية للآخرين ليقوموا بهذا الفعل؟ الأرجح أنه ظل يراهن، حتى آخر أيام حياته، على مجد الفن، وبات شبه مستحيل الآن أن تنفذ وصيته خصوصاً مع بدء تقييم لوحاته مادياً.

الحال أن الكثير مما ورد في {وصايا} الأدباء والفنانين التشكيليين لم ينفذ، وأبرز رغباتهم التي أهملت {هي عدم النشر} أو حرق المخطوطات واللوحات. في وصيته طلب فرانز كافكا أن تُحرق  أعماله الأدبية غير المنشورة، وأن تمنع طباعة باقي أعماله الأدبية بعد رحيله.

كتب كافكا في وصيته لصديقه الكاتب ماكس برود طالباً منه أن {تجمع وتحرق كل مخطوطاتي ورسائلي ومذكراتي ورسومي وكل ما دوّنته في حياتي، هذا يعني ما تجده بين أغراضي عند الآخرين من الأهل والأصحاب}. فما كان من ماكس برود، وربما من باب الفضول، إلا أن اتصل بأهم دور النشر، بعد أيام من رحيل كافكا (1924)، ما أدى الى صدور رواية {القصر} وكرّت سبحة الأعمال الكافكاوية التي ستصبح خالدة.

رغبة كافكا في {إعدام} كتبه كانت قوية جداً، خصوصاً في أيامه الأخيرة حين اشتد عليه المرض، إذ أجبر صديقته دورا ديمان على أن تحرق أمام عينيه بعض المخطوطات. هنا يبرز السؤال: لماذا لم يحرق كل نتاجه الأدبي بيده؟ هل لأنه كان يكبله ويطوّق روحه؟ أم أراد أن يدخل {الأسطورة} الأدبية؟ الأرجح أن دعوة كافكا إلى حرق أعماله ساهمت بشكل كبير في انتشارها، وبدت مثل دعاية غير مباشرة استغلها ماكس برود.

ليس كافكا الوحيد الذي أوصى بإتلاف ما كتبه بعد رحيله، فالروائي الروسي الأصل فلاديمير ناباكوف أوصى بحرق عمله الأخير غير المكتمل {أصل لورا}، لكن زوجته فيرا أوصت ابنها ديمتري قبل وفاتها عام 1991 قائلة: {عزيزي ديمتري نابوكوف. لا تحرق لورا. أترك المخطوطة تجمع الغبار}. يبدو أن الابن نفذ وصية الأم لا الأب، وقرر عدم إتلاف مسودات {أصول لورا} وقد صدرت قبل مدة.

خيانات جميلة

«خيانة وصايا} كافكا وناباكوف ترافقت مع ضجيج إعلامي كبير حول أعمالهما، عكس مع حصل مع الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف (1860 - 1904) الذي أوصى بعدم نشر جميع أعماله، لأنه كان يرى أن كثيراً من القصص التي كتبها لا تستحق النشر، إلا أن أكاديمية موسكو خالفت وصية تشيخوف، ونشرت في الفترة الممتدة بين عامي 1972 و1983 جميع أعماله.

يمكننا أن نمدح خيانة وصايا الأدباء والفنانين في ما يخص أعمالهم غير المنشورة، لأننا لا نقدر أن نتخيل الوسط الثقافي من دون أعمال كافكا الذي سحر معظم الروائيين.

كذلك لا يمكن أن نتخيل الوسط الشعري من دون أعمال الشاعرة الأميركية أميلي ديكنسون (1830-1886) التي تعتبر من أهم شاعرات القرن التاسع عشر. من غرائب الأقدار أنها كتبت ما يزيد عن ألفي قصيدة، إلا أنها لم تنشر في حياتها سوى سبع قصائد، بل تركت وصية الى شقيقتها بأن تحرق كل أشيائها ورسائلها. لكن أختها {خانتها} ولم تنفذ وصيتها بخصوص أشعارها، اذ أعجبت بمستوى القصائد بعدما عرضتها على متخصص، واجتهدت في تفسير عدم تنفيذ الوصية بأن أختها لم تذكر القصائد بالاسم ضمن الأشياء التي طلبت التخلص منها.

هذا غيض من فيض من الخيانات الأدبية الجميلة.

back to top