«البطاريات»... منافس شرس في حلبة الصراع لرسم مستقبل الطاقة

نشر في 09-02-2013
آخر تحديث 09-02-2013 | 00:01
إنتاج بطاريات مناسبة بسعر مناسب سيجعل محركات الاحتراق الداخلي ملقاة دون استخدام لا تجد من يشتريها في الأسواق بسبب وفرتها وقلة الطلب عليها، كما يؤشر ذلك إلى عالم يسوده الوقود المجاني بطاقة شمسية ورياح... بالطبع سيكون هذا الأمر ثورة حقيقية.
 إيكونوميست    يقوم كريس بوبيك، وهو كيميائي متخصص في المجالات الصناعية في مختبر أرغون الوطني في ليمونت على مقربة من مدينة شيكاغو، بالتلويح ممسكاً في يده أنبوباً من البودرة البيضاء في الهواء بصورة لافتة. وتعتبر مجرد كمية قليلة من هذا المكون كافية بالنسبة إلى زملائه الذين يسعون إلى التعرف على ما إذا كانت تشتمل على طاقة محتملة... فربما تصبح مادة جهنمية أخرى في عالم بحوث البطاريات.

ويتركز عمل الدكتور بوبيك على معرفة فرص تحويل الاحتمالات إلى واقع وممارسات عملية؛ بمعنى آخر، التعرف على ما إذا كان وجود مادة ما تشتمل على مكونات صحيحة يمكن من خلالها التصنيع على نطاق واسع وضخم وبتكلفة زهيدة. وإذا تحقق ذلك يمكن تمريرها إلى الصناعة لإجراء الاختبارات اللازمة عليها... ويكمن الأمل هنا في أن ينجح أحد هذه الأنابيب التي يلوح بها بوبيك في الهواء على الأقل في إطلاق ثورة في عالم الطاقة.

الوقود المجاني

تعد البطاريات تقنية شديدة الأهمية في وقتنا الراهن، فالحياة العصرية ستكون مستحيلة من دون بطاريات، غير أن العديد من المهندسين يجدونها محبطة ويشعرون أنه بالإمكان أن تكون أفضل مما هي عليه الآن. ويعتقد هؤلاء المهندسون أن إنتاج البطارية المناسبة بالسعر المناسب يمكن أن يجعل محركات الاحتراق الداخلي ملقاة دون استخدام لا تجد من يشتريها في الأسواق بسبب وفرتها وقلة الطلب عليها، كما يؤشر ذلك إلى عالم يسوده الوقود المجاني معززاً بأشكال من طاقة الرياح والطاقة الشمسية... سيكون هذا الأمر بمنزلة ثورة حقيقية.

وعلى أي حال إنها ثورة انتظرها الناس منذ فترة طويلة من الزمن، وكلما طال انتظارهم تساءل المشككون في إمكان حدوثها. ويأمل "المركز المشترك لبحوث تخزين الطاقة" JCESR، حيث يعمل الدكتور بوبيك مع زملائه لإثبات خطأ نظرة المشككين. وقد حشد هذا المركز أفضل الأدمغة في مجال بحوث الطاقة في المختبرات والجامعات الأميركية إضافة إلى مجموعة من الشركات المهتمة بهذا العمل، ولدى المركز الأموال اللازمة للمضي في جهوده وقد تلقى أخيراً منحة قدرها 120 مليون دولار من وزارة الطاقة في الولايات المتحدة من أجل جعل البطاريات أقوى بخمس مرات وأرخص خمس مرات خلال خمس سنوات.

التفكير الإيجابي

تشتمل جميع البطاريات- ابتداءً من تلك البطاريات الحمضية التقليدية العتيقة المصنعة بتقنية أقطاب الرصاص والتي استخدمت منذ زمن طويل في تشغيل السيارات وصولاً إلى بطاريات الليثيوم المتطورة التي تتسم بنحافتها وخفة وزنها والتي تستعمل في الأيباد والساعات- على 3 مكونات أساسية هي قطبان كهربيين (الآنود والكاثود) ووسيط تفاعلي يسمى الخلية (الإلكترولايت) وهو الذي يتيح للإلكترونات السالبة والموجبة الحركة بين القطبين الكهربيين، وتتحدد مدى كفاءة البطارية وقدرتها حسب قدرتنا على إحلال التوازن لتدفق الإلكترونات السالبة بما يولد التيار المفيد للبطارية. وتتركز المهارة الأساسية المتعلقة بالأنواع الجديدة من البطاريات على مقدرتنا على أن ننشغل ونجهد أنفسنا بالمواد والخامات التي تصنع منها تلك المكونات الثلاثة على نحو يجعل المنتج أفضل وأرخص ثمناً. وتندرج "المادة البيضاء" التي كان يلوح بها د. بوبيك ضمن تلك المواد محل البحث.

وبغية اكتشاف المزيد من هذه المواد عمد "مختبر أرغون" إلى استخدام موسوعة متنامية للمواد الخام والتركيبات، أعدها غيربراند سيدر من "معهد ماساشوسيتش للتقنية"- ويقوم الدكتور سيدر بإدارة "مشروع المواد" الذي يستهدف التحول إلى ما يعرف باسم "غوغل- لخواص المواد"، بما يسمح للباحثين بتسريع طرق البحث عن الأشياء عبر استخدام خصائص ومكونات محددة. وسيستخدم مختبر أرغون "مشروع المواد" على شكل مكتبة مراجع لبحوث الأقطاب الكهربائية كما يأمل في إضافة المزيد إليها.

قابلية الاشتعال

ومن المقرر أن يستهدف أول اختبار لأي مزيج من المواد التي تصدر عن "مشروع المواد" أو عن أي موقع بحثي آخر، تحقيق التفوق والغلبة على أكثر الأجهزة نجاحاً في مجال تخزين الطاقة الكهربائية خلال السنوات العشرين الماضية: وهي "بطارية الليثيوم- الآيونية" القابلة لإعادة الشحن. وينتشر استخدام تلك البطاريات في كل مكان حالياً وتستخدم هذه النوعية في تشغيل العديد من السيارات الهجينة والكهربائية التي تجوب الطرقات في الوقت الراهن. ومن أبرز مساوئها أنها قد تؤدي إلى ارتفاع درجة حرارتها أو الاحتراق. وهناك احتمالات أن يكون السبب وراء حدوث حريقين في طائرات "بوينغ- 787" الجديدة من طراز "دريملاينر" هو تلك البطاريات أو الأنظمة الخاصة بالسيطرة عليها... وسيعتبر تحسين أداء تلك النوعية من بطاريات الليثيوم الآيونية إنجازاً هائلاً لأي مختبر يستطيع إنجاز ذلك.

يعتقد جورج كرابتري، وهو المدير الجديد للمركز المشترك لبحوث تخزين الطاقة، أن هناك حاجة ضرورية تستدعي إجراء مثل تلك التحسينات في أقرب وقت ممكن، كما يرى أن معظم مزايا الأداء المنتظرة من بطاريات الليثيوم الآيونية قد تحققت بالفعل على أرض الواقع ما يستدعي التفكير بضرورة استبدالها الآن. أما جيف تشامبرلين، نائب كرابتري في المركز البحثي، فهو يشعر من جانبه بحماس زائد تجاه هذه التقنية القائمة، ويقول إن بالإمكان مضاعفة كمية الطاقة المستفادة في تلك البطاريات إضافة إلى خفض تكلفتها بمعدل يراوح بين 30 و40 في المئة.

ليثيوم الهواء

ويعكس هذا الوضع حالة عدم اليقين حيال قدرة هذه التقنية، وهل بوسعها، إذا بلغت حدودها القصوى من التحسين والتطوير، أن تصل بنا إلى جعل السيارات الكهربائية منافساً حقيقياً لنظيرتها التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي، ناهيك عن التفوق عليها.

من جانبها تتوقع الشركة الاستشارية "ماكينزي" أن تصبح بطارية "الليثيوم الآيونية" القابلة لإعادة الشحن، منافسة بحلول سنة 2020، لكنها في حاجة إلى الكثير من الجهد والعمل.... وهناك من هم أكثر تفاؤلاً في تلك الأوساط الاستشارية إلى حد زعمهم بأن بطاريات "الليثيوم" ستعتلي العرش وأن عصرها بدأ في يطل على العالم.

وتثار احتمالات بأن تتصدر العرش نوعية جديدة من البطاريات يطلق عليها "بطاريات الليثيوم الهوائية"، التي تعتمد في تشغيلها على عملية تأكسد معدن الليثيوم بين قطبي البطارية بحيث تزيد تأكسده عند القطب الموجب "الآنود" وتقلصه عند القطب السالب "الكاسود"، وفي تلك الحالة يعمل الأوكسجين الموجود في الهواء بمنزلة "الوسط" للخلية الكهربائية. وقد يساهم هذا الأمر في تقليص وزن البطاريات بما يعني أنها من الناحية النظرية ستحتوي رغم صغر حجمها على قدر هائل من الطاقة. وهذا الأمر على قدر كبير من الأهمية، لأن أحد أهم الاعتراضات التي تواجه السيارات الكهربائية حالياً يتمثل بأن الوقود البترولي يمنحنا طاقة (تقاس بالجولز)/ كيلوغرام تعادل ست مرات ما تستطيع أن تقدمه البطاريات. وبالطبع فإن تقليص الفارق في ذلك المعدل بين الوقود العادي والبطاريات سيجعل السيارات الكهربائية أكثر جذباً.

وقد أثارت تقنية "بطاريات الليثيوم الهوائية" ضجة كبيرة إذ إنها تنطوي على مشكلات ربما تحتاج إلى سنوات طويلة من البحث لإيجاد حلول لها، فتلك النوعية من البطاريات تصعب إعادة شحنها، وهي حساسة للغاية ومتقلبة الأداء، كما أن التفاعل الكيميائي المسؤول عن توليد الطاقة لا يبعد كثيراً عن احتمالات الاحتراق الذاتي، لذلك فهي قابلة للاشتعال إلى درجة كبيرة وتتطلب أنظمة أمن وسلامة عالية من أجل منعها من الاحتراق.

الماغنسيوم منافساً

ولحسن الحظ فإن الباحثين في "المركز المشترك لبحوث تخزين الطاقة" لديهم طرق أخرى في هذا الصدد- ويتمثل أحد السبل بتقنية البطارية متعددة الأيونات المكافئة... فالمعروف أن لدى ذرة الليثيوم إلكترونا واحداً متوافراً من أجل إجراء التفاعل الكيميائي، وتشتمل ذرة الماغنسيوم على إلكترونين، أما ذرة الألمنيوم فتحتوي على ثلاثة إلكترونات.

ويقول الدكتور تشامبرلين إن هذا يعني، من الناحية النظرية، أن في الإمكان تحقيق قدر من الطاقة من بطاريات الماغنسيوم والألمنيوم يصل إلى ضعفي أو ثلاثة أضعاف على التوالي ما هو في بطاريات الليثيوم. وعلى الرغم من أن هاتين المادتين ليستا في مثل خفة وزن الليثيوم، فإن إلكتروناتهما العالية التكافؤ تعمل على زيادة كمية الطاقة التي تستطيع تخزينها ما يرفع من قدرتهما التنافسية مقابل البترول، علاوة على ذلك فهي أرخص ثمناً من الليثيوم وأكثر سلامة، لكن الأيونات الخاصة بالماغنسيوم والألمنيوم تتسم بأنها أكثر صعوبة في الحركة داخل البطارية- لهذا السبب لم تستخدم على نطاق واسع في الماضي- وهذا ما يتطلب السعي إليه بالتجريب على المواد والخامات الجديدة.

«بطاريات التدفق»

بالإضافة إلى مجال السيارات الكهربائية، هناك تحول آخر ينطوي عليه عالم البطاريات يتمثل بإمكانية أن تبلغ التقنيات مستويات أداء أفضل وصولاً إلى تحقيق ما بات يعرف بـ"شبكات تخزين الطاقة" على نطاق واسع. وإذا أمكن تحقيق ذلك بتكلفة رخيصة بصورة كافية، فإنه سيحدث ثورة في اقتصادات طاقة الرياح والشمس من خلال جعل المشكلة الرئيسية المتعلقة بمثل تلك المصادر مثل عدم سطوع الشمس بصورة دائمة وعدم هبوب الرياح دائماً غير ذات أهمية. ولهذه الغاية يعمل الباحثون في أرغون على ما يعرف باسم "بطاريات التدفق".

في البطارية التقليدية يتم وضع الوسيط "الإلكترولايت" داخل الخلية حيث يعمل على نقل الآيونات المنطلقة بين الأقطاب الكهربائية، وبالتالي فإن شحنة البطارية يتم الاحتفاظ بها في صورة كتلة طاقة كيميائية تحملها تلك الأقطاب الكهربائية. أما في "بطاريات التدفق" فإن الشحنة المجمعة يتم الاحتفاظ بها في الأقطاب "الإلكترولايت"، ويتم تخزينها في خزان خاص، ثم يتم ضخها عن طريق الخلية إلى حيث الموقع الذي يحدث فيه التفاعل الكهربائي الكيميائي.

«كهربة» الاقتصاد

وبخلاف البطاريات الصغيرة التي تعتمد على الخلية، فإن "بطاريات التدفق" يمكن أن تصنع بأحجام كبيرة وعملاقة بحيث تتمكن من تخزين كميات ضخمة من الطاقة. ولهذا السبب كانت فكرة استخدامها من أجل تجميع الطاقة الفائضة من توربينات توليد الطاقة من الرياح ومن الألواح الشمسية بغية استخدامها في وقت لاحق. غير أن الأوساط الناقلة للآيونات (إلكترولايت) الذي يعتمد على الماء يحد من قدرات هذه النوعية من البطاريات لأن الماء يميل إلى التفكك عبر التحليل الكهربائي، كما يؤدي ذلك إلى الحد من توليد الجهد الكهربي اللازم لتشغيلها. لذلك فإن استبدال تلك الأوساط المائية بنوعية أخرى عضوية ستساهم في التغلب على تلك المشكلة، ويبذل الباحثون في أرغون جهوداً كبيرة في هذا المضمار.

في ظل هذا السيناريو، فإن عالم تسوده البطاريات سوف يساعد في "كهربة" قطاعات من الاقتصاد، مثل قطاع النقل الذي يتسم دوما بالتمرد، وهو ما سيشجع على التحول من استخدام الوقود الأحفوري المكلف والملوث إلى استخدام "وقود شمسي" عديم التكلفة. ولو اعتبرنا ذلك بيانا للإعلان عن ثورة في عالم الطاقة، فإنه من الطبيعي أن نتلقى الكثير من الضربات، لكن يبقى السؤال هل سيفوز الثوريون في نهاية المطاف أم سيبقى النظام العتيق سائداً؟!

back to top