كما في بدايات كل صيف من كل عام بدأ تراجع رعاة الأغنام البيضاء "الدِّبشْ" نحو الغرب هروباً من حر الصحراء وسمومها، وابتعاداً عن شح المياه وتيبٌّس الكلأ، فبادية الشام هي بساتين الربيع والكورة وجبال عجلون وهضاب جلعاد والبلقاء للصيف والأغوار بدفئها وبالخضرة وأشجار الزقوم ومياه النهر الخالد وينابيع الوديان المنحدرة من الضفة الشرقية للشتاء وبرودته وعواصفه وثلوجه وزمهريره.

Ad

تناقل الرعاة الرسالة التي يتناقلونها في مثل هذه الأيام من كل عام: "المُلْتقى نبع خريسان"، وذات مساء قبل مغيب الشمس بقليل أخذت القطعان تتجمع كغيوم بيضاء إلى أن ملأت سهلاً يفصل بين "الجبل المُطوَّق" بصخوره البركانية ومسالكه الوعرة وبين دُغلٍ من أشجار الغار يتوسط وادياً سحيقاً ينطلق من مرتفعات "بلعما" و"حمْنانَه" في الشرق، وينتهي عند التقاء سيل الزرقاء بجدول "القنيَّة" الجميل مقابل طواحين عدوان في الغرب.

تحول السهل إلى كومة من الصوف الأبيض المخصَّب بـ"المغرة" الحمراء، وبدأت أصوات الأجراس و"القراقيع" تهدأ، واتخذ الرعاة موقعاً فوق عين الماء مباشرة... أوقدوا ناراً ارتفعت ألسنتها فأنارت ضفتي الوادي، وحولت أوراق الغار في الدغل المجاور إلى مرايا صغيرة عاكسة فازدادت هذه الواحة، المختبئة كما يختبئ العصفور في العش عند أقدام جبال جرداء صوانية شاهقة، جمالاً ورونقاً ونضارة. 

بدأ الهواء المنساب عبر الوادي ينقل رائحة زهر أشجار الغار الجميلة، التي اختلطت برائحة نفاثة شهية هي رائحة لحم الكبش "الأشعل" الذي نحره الرعاة ليكون عشاءهم في ذلك المساء الذي لن يتكرر إلا بعد عام... هجموا على قطع اللحم المشوي كالنمور الكاسرة، وهجم معهم "عفنان"... ناطور بستان أشجار التين والرمان وحقول الذرة الصفراء التي لا تعطي عرانيسها إلا في بدايات فصل الشتاء... التهموا أرطالا من اللحم والشحم اللذيذين... وهبطوا بأكفهم نحو عين الماء فكرعوا حتى انتفخت بطونهم، وأخذوا يتتارعون ويتجشأون بأصوات مرتفعة... وبدأوا رقصة بدوية وحداء استمر الى نحو منتصف الليل.

تمددوا حول النار كخُشب مسندة... وانقلب عفنان على ظهره... وحمد الله وشكره على "هذه النعمة"، وأخذ يحملق في النجوم المطلة على الوادي كقناديل معلقة في سقف مرتفع... تنحنح وبدأ يقول للرعاة في محاولة لرد الجميل: هل تعرفون "فاران"... إن قبره يقع على تلك التلة المقابلة من الناحية الشمالية لدغل أشجار الغار... إن طول هذا القبر... الذي هو قبر أحد أمراء بني هلال ثماني خطوات... إنه محشو بعدد من جرار الذهب... لم يجبه أحد، بل إن بعض الرعاة غط في نوم عميق... تنحنح ثانية وأردف قائلا: في صيف العام الماضي جاء أربعة بغَّالة من الأتراك وأمضوا ليلتهم هناك... شرقي الوادي الذي يقع على كتفه الغربي هذا القبر الذي يحرسه "فيل خريسان"، وفي الصباح وجدنا أن هؤلاء البغَّالة قد رحلوا، ووجدنا خلفهم ثلاث حفر عميقة وثلاث جرار فخارية مهشمة وقطعتين ذهبيتين كل واحدة منهما بحجم "المجيدي".

لم تثر هذه الرواية فضول أي من الرعاة الذين كانوا يستمتعون بامتلاء كروشهم باللحم المشوي، والذين استغرق بعضهم في نوم عميق... فاستبد الغضب بالناطور عفنان... ولإيقاظ هؤلاء الرعاة وجذْب اهتمامهم صرخ صرخة مدوية، وأخذ يردد بأعلى صوته وهو يركض نحو بحر الأغنام الهاجعة باسترخاء: "امسكوه... امسكوه... إنه فيل خريسان سيقتلكم كلكم إن لم تقتلوه... اذبحوه"!

كان الرعاة قد سمعوا أن هذه المنطقة القصية النائية مسكونة بشبح يتخلَّق ويتخذ هيئات متعددة، ويُحوِّل نفسه مرة إلى حصان ومرة الى حيوان غريب رأسه أكبر من جسده، ومرة الى عاصفة رملية، ومرة أخرى الى صخرة كبيرة تتدحرج بسرعة هائلة فتسحق من يعترض طريقها... أخذ الرعاة يتناهضون وهم يمطرون "عفنان" بعشرات الأسئلة: أين هو الفيل وأين ذهب...؟ هل نستطيع الإمساك به...؟ هل هو في هيئة إنسان أم حيوان...؟!

انطلق عفنان راكضاً... وهو يشير لهم بأن يتبعوه بسرعة... وصل الى كهف صغير "مَزْخبة"، يقع على طرف الهضبة التي يقع فوقها قبر "فاران"، قال لهم: إنه هنا... أخذ يجمع الهشيم والأعشاب الجافة ويلقيها في جوف المزخبة... وانطلق الرعاة يجمعون الحطب و"القشع" ويلقونه في فم المغارة... ثم أشعلوا النيران بينما عفنان يبرطع ويضحك بصوت صاخب ومرتفع وهو يقول: "موت الله لا يقيمك... أيْوَهْ موت"!

مع أول ضوء صباح اليوم التالي... رحل الرعاة نحو الغرب... فوجد عفنان نفسه وحيداً... حاول أن ينسى حادثة الليلة الماضية... وبقي ينتظر، وما إن حل المساء حتى صعد الى مهجعه فوق الصخرة المرتفعة... تمدد وهو يحس أن قلبه أصبح في حلقه... أحس بجلبة قوية عند أسفل الصخرة المرتفعة... حاول قراءة سورة الفاتحة.. لكن لسانه انعقد ولم يستطع... حاول الصراخ لكن صوته لم يخرج من صدره... ارتقى فيل خريسان الصخرة وهو يطلق زمجرات وهمهمات غاضبة مخيفة... كانت هيئته تشبه هيئة فيل وجمل... قال لعفنان: "أين رعاة قبيلتك أيها الوغد الخائن؟"، وقبل أن يقول عفنان كلمة واحدة كان قد برك فوقه، وأخذ يهرسه ويهرسه إلى أن حوله إلى كتلة لحم تختلط بالدماء!