هل يرضخ المبدع السينمائي لضغوط المتلقي ويُقدم قطعته الفنية» بناء على طلب الجمهور» أم يمضي في طريقه، ويتشبث بوجهة نظره ورؤيته الشخصية، ويقدم ما يحلو له حتى لو كانت النتيجة صادمة أو محكوماً عليها بالفشل الجماهيري؟

Ad

خيري بشارة مخرج يعشق التمرد، ويُصر على أن يكون مختلفاً، لذا فاجأ الجميع في الدورة التاسعة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (9ـ 16 ديسمبر 2012) بفيلم روائي طويل يعود به إلى جمهوره ومحبي سينماه بعد 11 سنة من الغياب، يحمل عنواناً غير مألوف هو «موندوغ»، الذي يعني في ترجمته الحرفية «كلب القمر»، لكنه يعني حسب المعنى الذي يرتاح له بشارة «صعاليك الشوارع»، وهي الصفة التي تنطبق بدرجة كبيرة على المخرج نفسه، الذي يحلو له أن يُسمي نفسه «صعلوكاً، بمعناها الإيجابي.

لا يكتفي «بشارة» بالعنوان الصادم، الذي ترك للجمهور فك طلاسمه، وإنما قدم فيلماً ناطقاً بالإنكليزية، وهو ما فسره لي في المؤتمر الصحافي، الذي أعقب عرض الفيلم بأنه يكرس «الغربة» التي عاشها أثناء زيارته للولايات المتحدة الأميركية، وفي شطحة من شطحاته المعتادة، يتخيل أنه استيقظ ذات صباح ليجد نفسه «كلباً»، وطوال مشاهد الفيلم ترك العنان لمشاعره ليتحدث عن عائلته، وأشياء داخل عالمه الخاص وخارجه، والمعنى من وراء وجوده في الحياة، وتعمد أن يُشرك المشاهد في فك طلاسمه، ويربط الأحداث مع بعضها البعض.

«موندوغ» ليس فيلماً ينتمي إلى السيرة الذاتية بالشكل الذي اعتدناه، لكنه «فيلم حر» يصنعه المبدع من دون أن يتقيد بالقواعد والمسلمات التي تفرض عليه أن يصنع قطعته الفنية حسب الأسس المتعارف عليها، فبدا وكأنه يحاكي طريقة الفنان التشكيلي في إبداع اللوحة الفنية التي تتضح ملامحها مع كل ضربة ريشة لمبدعها، الذي لا يُخطط مُسبقاً لما يفعله، ولا يملك إجابة بالتالي لسؤال يُطالبه بتفسير السبب وراء اختيارهذا اللون أو ذاك.

في إطار هذه «الفوضى الخلاقة» لم يلتزم «بشارة» بقواعد زمنية من أي نوع، وبدأ تصوير الفيلم عام 2000 وأنهاه عام 2011، وساعده على هذا أن الفيلم من إنتاجه وبطولته مع أفراد عائلته (ابنه وابنته وزوجته وشقيقته التي تعيش في أميركا)، وخلط في الأحداث بين ما هو ذاتي (وضع عائلته في أميركا)، وما له علاقة بالخيال، ونظرته الفلسفية التي تفرز مسارات عدة يحددها «الكلب» الذي يتنقل بين العالمين. في هذا السياق المتمرد، قام خيري بشارة أثناء التصوير بتجريب أنواع مختلفة من كاميرات الفيديو، من بينها الحديث والقديم والضعيف والجيد، مما منح الفيلم خصوصية وبريقاً لا يمكن تجاهلهما، فالكاميرا الضعيفة أضفت طابعاً أرشيفياً بينما منحت الكاميرات المتطورة حداثة على الفيلم، الذي تأرجح بين الواقع والخيال، وقدم رؤية طازجة للشارع الأميركي، ووظف ببراعة أغاني فرق الأندرغراوند»، وبين ما جرى في مصر أثناء الثورة التي لم يشهدها بشارة بل سمع عنها وهو في أميركا، وبادر بتقديم التحية إلى الشباب الذين قاموا بها، وأعرب عن إيمانه بالانتصار على الذين سرقوها.

أراد خيري بشارة، من خلال فيلمه «المجنون» و»الشبابي» جداً، وفي تجربة متطورة كثيرة مقارنة بفيلميه «كابوريا» و»أيس كريم في جليم»، أن يبتكر علاقة جدلية مع المشاهد، يدعوه خلالها إلى تأمل الحياة وماهية الوجود، ويحفز ملكاته في التفكير مثلما يُثري خياله، ولم يأبه مُطلقاً بالقواعد التي ينبغي أن يلتزم بها المخرج، وراعاها هو نفسه في فيلميه «يوم مر ويوم حلو» و»أميركا شيكا بيكا». كذلك تحرر من كل القيود التي يمكن أن تُكبله، وحلق في عوالم عدة تاركاً لنفسه العنان في التطرق إليها من دون حساب.

بالطبع سيدفع خيري بشارة ثمن تجربته، التي تجسد التمرد في أبهى صوره، وسيجد صعوبة كبيرة في عرض الفيلم تجارياً، حتى لو لجأ إلى ترجمته إلى العربية، حيث سيواجه تمرداً من نوع آخر من الجمهور، الذي سيقابل التجربة بانصراف وربما غضب، لكن يكفيه أنه صنع في النهاية الفيلم الذي يريد ويتمنى، وحقق السينما التي تحمل قبساً من روحه وجنونه، ووضع قواعد جديدة للسينما الذاتية كما يراها، بعدما تحدث عن أفكاره وهواجسه بالشكل الذي يحلو له، وعبر عن رؤيته للحياة وفلسفته في التمتع بها، وإن بدا من المؤكد أنه سيدفع الثمن وحده يوم يجد نفسه مستمتعاً بمشاهدة الفيلم هو وعائلته... فقط.