تميَّز مارسيل رايش رانيسكي بأنه كان ناقداً أدبياً وليس كاتب علاقات عامة على نحو ما يفعل بعض النقاد العرب وحتى الأجانب. كان كثير من الكتاب والأدباء يخشون ويخافون نقده، حتى بعض الذين فازوا بجائزة {نوبل الآداب}، كونه كان يجمع بين النقد المدين لأي عمل أدبي ولا يراعي الجودة البلاغية وقواعدها، ما جعل نقده في بعض الأحيان مدمراً لبعض الكتاب. أما كإعلامي فكان يعمل على جعل الناس على اختلاف ثقافاتهم يهتمون بالأدب. كان يعمل على تبسيط العمل الأدبي إلى مستوى عقليات الجمهور المختلفة، وهو تارة كان يُتهم بالخائن لاعتقاد البعض بوشايته بكثيرين خلال فترة عمله لدى المخابرات البولندية، وطوراً كان يوصف بالضحية لما تعرض له على أيدي النازيين الألمان. الأهم من ذلك أنه صنع ثقافته الخاصة التي تحدت أركان الكتابة الأوروبية، ومن يتأمل مسيرته وطريقة نقده يكتشف كم أن العرب بحاجة إلى أمثاله اليوم في خضم ثقافة الإخوانيات والوقوف على باب الله في انتظار المساعدات، وحتى التوسل لأجل تذكرة طائرة لمهرجان شعري.
طفل مهمَّشولد رانيسكي في كلاوك في شمال بولندا، لوالد يدعى ديفيد الرايخ الذي كان يعمل رجل أعمال ناجحاً. وكانت والدته هيلين سليلة سلسلة طويلة من الحاخامات الألمانية، كما كان الفنان فرانك أورباخ ابن عم له. انتقلت العائلة إلى برلين عام 1929 بسبب بعض المشاكل المالية، حيث قدم خاله الدعم المادي لهم. وفي المدرسة واجه الطفل مارسيل مشاكل جمة، لأنه {كان مهمشاً، إذ لم يكن يجيد اللغة الألمانية}. ويستحضر {بابا الأدب}بعضاً من ذكريات الطفولة بالقول {لم يكن لدي وطن. كان الأدب هو موطني الوحيد في الثلاثينيات (من القرن الماضي) في الرايخ الثالث، فقد مكثت في برلين إلى عام 1938}.وبعد إنهاء المدرسة الثانوية، كان مارسيل رايش رانيسكي يود دراسة الأدب الألماني في الجامعة. لكن وبسبب أصوله اليهودية، زجّ به النازيون في معسكر فارشاو، في ما قتل والداه وأخاه على يد النازيين. وداخل المعسكر تعرَّف إلى زوجته تيوفيلا التي فارقت الحياة قبله بسنتين. تزوج الاثنان، ودامت العلاقة أكثر من 50 عاماً. يسرد رانيسكي وقائع تلك الفترة قائلا: {تعرفت هناك إلى أناس، تعاملوا معي بمنتهى الروعة. وقد أنقذ رجل بولندي وزوجته حياتي وحياة زوجتي}. نشر أول كتاباته في كتاب مستقل له في الفترة بين 1955 و1957، كذلك نشر كتاباً عن تاريخ الأدب الألماني ودراسة عن اليهودية الشيوعية في الفترة بين 1871 إلى 1954، وفي عام 1958 ذهب في رحلة دراسية إلى ألمانيا الغربية ليعود مرة ثانية إلى بولندا، وتم تصنيفه ضمن مجموعة من الكتاب الذين يعملون على تجديد الأدب الألماني في أعقاب الرايخ الثالث.عاشق الأدب الألمانيكان رانيسكي يعشق الأدب الألماني، وقد ألف كثيراً من الكتب حوله. ومن ضمن الأدباء الذين كان يهتم بهم غوته وهاينرش هاينه وفيلهالم فون كلايست وتوماس مان. إلى جانب ذلك، كان يتابع أعمال الأدباء المعاصرين من خلال عموده في صحيفتي {دي تسايت} الأسبوعية و{فراكفورتر ألغماينر} الواسعة الانتشار. وفي هذا الإطار، أثارت مقالته التي نشرها في مجلة {دير شبيغل} الألمانية حول رواية غونتر غراس {حقل واسع} جدلاً واسعاً في الأوساط الأدبية، والأمر ذاته بالنسبة إلى رواية مارتن فاسر {نهاية ناقد أدبي}، الذي اعتبر {تصفية حساب} من الكاتب مع رايش رانيسكي نفسه.وفي حديثه عن علاقته بالثقافة اليهودية، أوضح أنه لم يشارك في المعتقدات الدينية اليهودية، ولم يرَ نفسه مرتبطاً بالتقاليد الثقافية اليهودية، وإنما وجد نفسه مرتبطاً بالثقافة الأوروبية وعلم النفس والموسيقى وغيرها من مظاهر الأدب. حصل على جائزة الإنجاز مدى الحياة عام 2008، ونشر 20 كتاباً. سيرته الذاتية {حياتي} التي نشرها عام 1999 حققت مبيعات كبيرة، وقد دوَّن فيها كما صرح بابا الأدب: {كتبت كتاباً عن حياتي، أي ببساطة ما عشته وعانيت منه}. وقد تمّ تحويل الكتاب إلى فيلم، أدى فيه الممثل الألماني ماتياس شفايغهوفر دور البطولة. وعنه قال بابا الأدب: {ما حققه الكتاب من نجاح، كان مفاجأة بالنسبة إلي}.
توابل - ثقافات
رحيل مارسيل رايش رانيسكي... الناقد الذي لا يهادن
30-09-2013