هل عدنا إلى عام 1956؟ في تلك الفترة، أعاقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مسار فرنسا وبريطانيا خلال مغامرة السويس. اليوم، يبدو أن العالم عاد يتمحور مجدداً حول واشنطن وموسكو، لقد تغيرت الأوضاع طبعاً، فخلال الخمسينيات، كانت أوروبا ساحة معركة للحرب الباردة، أما اليوم، وبعد أكثر من عقدين على سقوط جدار برلين، أصبحت روسيا مجرد إمبراطورية سابقة وضعيفة وبدأ النفوذ الأميركي يتراجع تزامنا مع تراجع قيمة أوروبا الاستراتيجية بالنسبة إلى واشنطن.

Ad

هكذا استنتجت فرنسا وبريطانيا خلال التسعينيات (بعد التجربة المهينة في البوسنة) ضرورة أن تحصلا على الوسائل اللازمة للتكيف مع الظروف التي تستدعي استعمال القوة العسكرية من دون أي تدخل أميركي مباشر بالضرورة. كانت هذه الفكرة أساس اتفاق سان مالو في عام 1988، حيث أعلن الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يكتسب مكانة تخوله أداء "دوره الكامل" على الساحة الدولية. لتحقيق تلك الغاية، اعتبرا أن الاتحاد الأوروبي "يجب أن يتمتع بالقدرة على تنفيذ تحرك مستقل بالاتكال على قوات عسكرية موثوقة، فضلاً عن كسب النفوذ اللازم لاتخاذ القرار باستعمالها والاستعداد للقيام بذلك من أجل الرد على الأزمات الدولية".

يبدو أن تلك الأحداث وقعت منذ فترة طويلة، لكنها مهمة اليوم لثلاثة أسباب: أولا، إنها معطيات مهمة بسبب توجه الإدارة الأميركية الراهنة سريعاً إلى تخفيف تورطها، لا في المشاكل الأوروبية فحسب بل في الشرق الأوسط أيضا (إنه وضع مستجد). الرئيس باراك أوباما ليس ضعيفاً ولكنه بكل بساطة لا يريد أخذ أي مجازفات عبر خوض مغامرات عسكرية جديدة؛ لهذا السبب، أصدر الرئيس قرار سحب القوات من العراق وأفغانستان، وتردد في التدخل في ليبيا (حيث ابتكر مفهوم "القيادة من وراء الكواليس")، ولا يزال يخشى التدخل في سورية. أدى هذا النهج إلى عزل بريطانيا وفرنسا، وهكذا أصبحت روسيا هي المستفيدة من الوضع.

السبب الثاني يرتبط بألمانيا التي أوضحت أنها تريد أن تبقى القوة العظمى الاقتصادية والمالية في أوروبا وأن تتولى ابتكار السياسات وتحديد القواعد، لكن من دون أن تتحمل طبعاً أي مسؤوليات عالمية رداً على الأزمات الدولية، لا سيما عبر استعمال الوسائل العسكرية. لا تنجم هذه النزعة حصراً عن الخوف من المجازفة بالعلاقات التجارية، لا سيما مع الصين وروسيا، بل إنها تتعلق بالآثار العميقة والقديمة التي خلفتها الحرب العالمية الثانية على نفسية الألمان.

ثالثاً، ينطبق وضع ألمانيا للأسف على وضع أغلبية حكومات الاتحاد الأوروبي. لم يسبق أن أبدت الدول الأوروبية أي رغبة في تحويل القارة إلى قوة عالمية، وبالنسبة إلى الكثيرين، يكفي أن يكون البلد قوة اقتصادية في العالم، إذ تتمتع أوروبا بالقوة الدبلوماسية بفضل قدرتها على تحديد القواعد والمعايير وتقديم المساعدات الإنسانية والمالية. هي تظن أن الولايات المتحدة تستطيع تولي دور شرطة العالم، وكان هذا النهج خاطئا في الماضي وهو لا يزال غير نافع اليوم لأن الولايات المتحدة لا تريد أن تؤدي دور شرطة العالم.

ماذا سيحصل لفرنسا وبريطانيا في ظل هذا الوضع؟ هذان البلدان قوتان نوويتان وعضوان دائمان في مجلس الأمن، وهما الطرفان الوحيدان اللذان يتمتعان بقوة عسكرية مهمة في أوروبا، ولا شك أن جمع هذه الموارد في إطار مصدر قوة جديد سيصب في مصلحتهما المشتركة، لكن لا بد من تلبية شروط عدة لتحقيق ذلك.

يجب أن يدرك البلدان أن علاقتهما لا يمكن أن تكون لعبة حيادية (مثل مسابقة للحصول على مكافآت واشنطن)، بل يجب أن يقتنعا بأن مصلحتهما المشتركة في ظل النظام الدولي ترتكز على قواعد متعددة الجوانب، ولا بد من فرضها إذا تم انتهاكها، ويجب أن يقنعا شركاءهما الأوروبيين بضرورة أن تستعمل أوروبا جميع الوسائل المتوافرة، حتى الوسائل العسكرية عند الاقتضاء، إذا أرادت أن تثبت أهميتها في الشؤون العالمية.

ثمة أمر مؤكد واحد: لن يرتفع صوت أوروبا في الشؤون العالمية بلمسة سحرية من بروكسل بل يجب أن تثبت الدول التي تتمتع بالإرادة السياسية والإمكانات العسكرية براعتها في القيادة، فيبدو أن فرنسا وبريطانيا وحدهما، حتى الآن، مخولتان تولي هذه المكانة في أوروبا.

بعد تجربة السويس، اتخذت بريطانيا وفرنسا اتجاهات معاكسة في سياستهما الخارجية، وبعد أول جرس إنذار في البوسنة، وقعت لندن وباريس على اتفاق سان مالو، وبعد أحداث سورية، يجب أن توقعا على اتفاق "سان مالو 2"، ونظراً إلى المزاج السائد في البلدين، تبدو هذه الخطوة الكبيرة مستبعدة، لكن هذا المسار هو الطريق الواقعي الوحيد كي يبقى البلدان لاعبين أساسيين على الساحة العالمية.

Gérard Errera

* سفير فرنسي سابق في بريطانيا وهو رئيس مجموعة "بلاكستون" في فرنسا.