مرثاة الرجل العجوز

نشر في 29-09-2013
آخر تحديث 29-09-2013 | 00:01
 ناصر الظفيري في قصيدة نثر متماسكة ثيمة وشكلا إبداعيا يقدم محمد النبهان، كما يفعل شعراء حقيقيون آخرون، ما يؤكد أن قصيدة النثر ليست تداعيات أو خواطر هائمة تستسهل فن كتابة الشعر لتأخذه بعيدا عن الشعر. في حكاية الرجل العجوز تأصيلا للعمل الناضج على مستوى الفكرة المحافظة على وحدتها النصية ومستوى النسق الشعري المتصل. القصيدة التي أنهكت شاعرها لتراوح بين زمنين شعريين يتأكد الأول في الشكل المتكامل لقصيدة النثر ولا ينبئ الثاني بما ستكون عليه حالة الشعر حين يبلغ الشاعر عمر العجوز الذي سيكونه، تأتي وكأنها كتبت هكذا دفعة واحدة في لحظة ليست هي الآن تحديدا. لحظة بحث عن ذات مفقودة وتاريخ مهمل في مستقبل مبهم وغامض التفاصيل.

يسبق محمد النبهان زمن القصيدة ليصل قبلها الى ما ستؤول اليه غربة الغريب الموزع بين لحظتين متجاورتين نصا متباعدتين زمنا مراوحا بين ذاكرة تم تشكيلها وأخرى يشكلها على النحو المتوقع لنهاية بطله الذي يشبهه ويشبهنا، نحن الذين قذفنا الزمن خارج دورته كحجر من مقلاع صبي أعمى لا يعي مكان ارتطامنا، "فالطريق الى البيت لا يذهب بك الى البيت/ ما البيت؟/ حين تعود وكأنك ذاهب".

بين استرجاع ماض ساكن بكل تفاصيله مسكون بالحنين اليه حيث لم يكن ثمة مكان مؤسس كما هي الأمكنة، لم يمنحنا فرصة أن نزرع سدرتنا ولم يمكنا من ابقاء صور صداقاتنا ومغامراتنا الأولى. كأنما المكان الذي فشل في احتوائنا ينازعنا على ذاكرة نحاول الاحتفاظ والاحتفاء بها كما يليق بها. لا يمنحنا جدارا نعلق عليه لوحة ولا بطاقة عليها أسماؤنا وعناوين بيوتنا.

العجوز الذي استمرأ التزوير شابا ليعيش خلاصا آنيا في الغزو ويخلّص من حاصرهم العسكر وغيروا عناوينهم وأسماءهم وأسماء جيرانهم، العجوز الذي كان يحرس البيوت في شبابه "كحصان درويش" كي لا تموت، لم يجد بيته في حين عادوا الى بيوتهم ولم يجده في شيخوخته الا في الحلم الذي رسمه في شبابه. العجوز الذي بقي رهينة لعبة التزوير التي استمرأها، فليس هو الآن هو ولا البيت الذي يحلم به هو البيت.

يشير محمد النبهان إشارة نصية الى نص الشاعر الكندي روبرت كروتش في قصيدة نثر بعنوان "كتالوج البذور". يحاول الشاعر المهاجر من ألمانيا أن يشكل تاريخه الحالي بعد انفصاله عن وطنه الأم فلا يجد من عالمه الجديد كتابا واحدا ينتمي اليه سوى كتالوج البذور الذي توزعه وزارة الزراعة ليبني منه تاريخا جديدا.

كلاهما محمد وكروتش لا يرغبان بأكثر من وظيفة ساعي بريد "ينقل رسائل حقيقية لأناس حقيقيين" ولا ينظر أحد لطلبهما. كلاهما لا ينتمي الى عالمه الجديد ولا يعرف شيئا عن ثقافة بلد لعبة الهوكي في الشتاء ولا لعبة الغولف في الصيف. ولم يتبق من اللعبة التي يمارسها قديما "قبل الحرب بعام" سوى قدم مكسورة لا يمكنها الثبات على أرض.

قراءة نص محمد النبهان فاتحة كتاب حياة محمد النبهان وأقداره الموشومة على كف تقرأها عجوز في مثل سنّه غدا ترسم له ما سيكون عليه مصيره وأمثاله الذين لا يملكون سوى أن يحلموا بصناعة تاريخ "مزور" وكتابته كما يشتهون. أن يتحقق لهم ثبات في لحظة ما، والذي قد يتحقق حين يصبحون حقا وحيدين وعراة من كل شيء، من ماض انتزعته حركة المطارات والانتقال بين بيوت يوزعون فيها ذاكرتهم السريعة فلم يعد ثمة ماض ممكن ولا مستقبل أكيد. ينسون كل شيء "كورقة العجوز في جيب بنطاله".

back to top