الاقتصاد الأميركي مدين لقيادة برنانكي في الصمود
تفوق في الأداء على نظيره الأوروبي... و«الاحتياطي الفدرالي» يستحق الثناء
البنوك المركزية، بما فيها «الاحتياطي الفدرالي»، تأتي بالشيء الصحيح، ولو أنها لم تتصرف على نحو ما فعلت خلال السنوات الست السابقة، لكننا بالتأكيد سنعاني مرحلة ثانية من الكساد العظيم.من السهل أن نجد أناساً في وول ستريت يعتقدون أن السياسات النقدية النشطة للبنوك المركزية، خصوصاً سياسة «الاحتياطي الفدرالي» في التسهيل الكمي، تعمل على زعزعة استقرار الاقتصاد. في بعض المحافل، كما ذكر الزميلان دان ماكرم وروبن هاردنج، ارتقى هذا الظن إلى مقام الحقيقة الواضحة بذاتها. لكنه خاطئ.البنوك المركزية، بما فيها «الاحتياطي الفدرالي»، تأتي بالشيء الصحيح. ولو أنها لم تتصرف على نحو ما فعلت خلال السنوات الست السابقة، لكننا بالتأكيد سنعاني مرحلة ثانية من الكساد العظيم.إن مهمة البنوك المركزية هي تجنب الوقوع في انهيار من هذا القبيل، ومن ثم مساعدة الاقتصاد على الانتعاش. إن انتقادي، وإن كان موجهاً إلى البنك المركزي الأوروبي أكثر منه إلى مجلس الاحتياطي الفدرالي، ليس لأنه بالغ في إجراءاته، وإنما لأن إجراءاته كانت أقل من المطلوب.لكن هذا لا يعني أن السياسات التي تبنتها البنوك المركزية، إما أنها متهورة وإما بلا تكاليف. لأنها لم تكن كذلك. ولكنه يعني أنها كانت أقل الخيارات السيئة.فضلاً عن ذلك، حقيقة أن ارتفاع العوائد على السندات السيادية ذات التقييم الائتماني الممتاز في الفترة الأخيرة، هو بالتأكيد علامة على النجاح. ما يبدو أنه يحدث الآن هو انبعاث بعض الثقة في الاقتصاد، خصوصاً في الولايات المتحدة. وهذا يشجع المستثمرين على أن يتوقعوا موعداً مبكراً للخروج من التسهيل الكمي، والأشكال الأخرى من السياسة النقدية التوسعية، مما كان يُعتقَد قبل بضعة أسابيع.يلاحظ جافين ديفيز، ربما يكون هذا بداية العودة إلى الوضع الطبيعي. صحيح أن العوائد على السندات الأميركية التقليدية لأجل 10 سنوات ارتفعت بنحو 40 نقطة أساس خلال الشهر الماضي. لكنها لا تزال أعلى قليلاً من 2 في المئة فحسب.هذه بالتأكيد ليست المعركة الفاصلة لسوق السندات، إذا استمر الانتعاش، كما نرجو، فإن العوائد سترتفع أكثر، لم يكن بمقدور أي شخص الافتراض بأن أسعار الفائدة الاسمية والحقيقية، على الأجل الطويل، ستظل عند مستوياتها الدنيا إلى الأبد.ما هو السبب في أن الانتقادات الموجهة إلى سياسات الاحتياطي الفدرالي بعيدة عن الصواب إلى هذا الحد؟ الجواب على ذلك له طابع فلسفي وآخر اقتصادي بالمعنى الضيق.الجيشان المالي الجواب الفلسفي هو أن البنك المركزي مؤسسة عامة مكَلَّفة بهدف عام. إن دوره هو تعزيز استقرار الاقتصاد ليصمد أمام الجيشان المالي. يصر البعض على أن البنك المركزي هو الوحيد المسؤول عن الجيشان، لكن وجهة نظر هايمن مينسكي، التي تقول إن النظام المالي المدفوع بالائتمان يوّلد الاضطراب داخلياً، تبدو معقولة أكثر.على الجانب الاقتصادي، أحدثت الأزمة المالية الاضطراب في خلق النقود، وهي عملية تكون المسؤولية عنها في العادة لدى المؤسسات الخاصة، أي البنوك. ركز الناس اهتمامهم بصورة هائلة على التوسع في الميزانيات العمومية للبنوك المركزية. لكن ما هو أهم من ذلك بكثير هو المجاميع النقدية الأرحب، التي تقيس الأموال الموجودة في أيدي الناس. إن نمو الأموال الواسعة يعتمد على استعداد البنوك للإقراض أكثر. وقد اختفى هذا الاستعداد بعد الأزمة.نستطيع أن نرى ذلك في المقياس المعروف باسم «مؤشر ديفيزيا لعرض النقود العريضة». تشير تقديرات مركز الاستقرار المالي في نيويورك إلى أن عرض النقود، استناداً إلى هذا المؤشر، كان أعلى فقط بنسبة 0.7 في المئة في أبريل 2013 مما كان عليه في أكتوبر 2008 – على الرغم من التوسع في الميزانية العمومية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. هذه مجاعة نقدية، وليست وليمة عامرة.الجواب الاقتصادي الثاني هو أن الأزمة المالية تزامنت مع التراجع في الأسعار الحقيقية للمساكن في الولايات المتحدة، وأشعلت فتيل التخلص من الرفع المالي بين المؤسسات المالية والأسر.كان لا بد من إجراء قوي في السياسة النقدية والمالية العامة للتعويض عن هذه القوى الانكماشية. وحيث إن مساندة المالية العامة تم سحبها للأسف قبل الأوان، وقع العبء على مجلس الاحتياطي الفيدرالي. وحيث إن أسعار الفائدة في الأجل القصير واقعة في النطاق الصفري، كان لا بد للبنك من أن يؤثر في أسعار الفائدة في الأجل الطويل، إذا أريدَ للسياسة النقدية أن تكسب الزخم.فضلاً عن ذلك، حيث إن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة كان في الربع الأول من 2013 أعلى بنسبة 3.3 فقط من الربع الثاني لعام 2008، من السهل أن نظن أن الاحتياطي الفدرالي فعل أقل مما يلزم وليس أكثر. حذر المنتقدون من الخطر الوشيك للتضخم المفرط. لكن التوقعات التضخمية تحت السيطرة، في حين أن التضخم الأساسي في السنة المنتهية في 15 أبريل 2013 كان 1.7 في المئة فحسب. كان الخطر الأكبر هو الانهيار نحو انكماش على الطراز الياباني.الأوقات غير العادية تتطلب إجراءات غير عادية، والذين ينتقدون مجلس الاحتياطي الفدرالي بمرارة بالغة، إما أنهم يفتقرون إلى الخيال أو لا يكترثون بما كان يمكن أن يحدث للاقتصاد والمواطنين لو لم يتدخل مجلس الاحتياطي الفدرالي والبنوك المركزية الأخرى. لكن هذا لا يعني أن التطبيع سيكون سهلاً. التراجع الدوري الذي يحدث كل عقد في عوائد السندات ربما يكون بالفعل في سبيله إلى الانتهاء. ومن المؤكد أن هذا سيخلق صعوبات، خصوصاً بالنسبة للمستثمرين المعتمدين على الرفع المالي. ثلاثة تحدياتيواجه البنك المركزي الآن ثلاثة تحديات على الأقل، الأول هو كيفية تنفيذ عملية الخروج، يشتمل ذلك على مسائل تتعلق ليس فقط بالتوقيت، وإنما في إعطاء الوضوح حول خططه في بيئة يحوطها اللبس في حد ذاتها. في الظروف الحالية سيكون من المهم تماماً تجنُّب التصرف قبل الأوان، لأن ذلك ينطوي على خطر إجهاض الانتعاش الاقتصادي.التحدي الثاني هو في التعامل مع عوامل اللبس التي تقع خارج سيطرة صناع السياسة الاقتصادية. أحد هذه المجاهيل هو السياسة المالية العامة للولايات المتحدة. في شهادته أمام الكونغرس في الشهر الماضي قال برنانكي إن: «تقديرات مكتب الميزانية التابع للكونغرس تشير إلى أن سياسات تقليص العجز في القانون الحالي، ستبطئ من معدل النمو الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقع بين 1 و1.5 في المئة خلال 2013، نسبة إلى ما كان يمكن أن تكون عليه خلافاً لذلك» هذا أمر مثير للقلق. وهناك أمور أخرى خارجة عن سيطرته بقدر ما هي الأحداث كذلك في منطقة اليورو، رغم أنها تبدو الآن أقل اضطراباً بكثير مما كانت عليه قبل سنة.يدور التحدي الثالث حول مصادر الطلب على الأمد الطويل. أنا أنظر إلى هذا الموضوع بدلالة التوازن المالي في القطاعات – مثل التوازن بين الدخل والإنفاق – لدى قطاع الشركات وقطاع الأسر، والقطاعات الخارجية والحكومية. السؤال المهم إذن هو المصدر الذي يمكن أن يأتي منه التوسع. في الربع الأول من هذا العام سيكون المعادِل الرئيس للتقلص في المالية العامة، هو التراجع في فائض مدخرات الأسر.الأمر المطلوب كذلك هو تحول كبير باتجاه الفائض في الحساب الجاري الأميركي أو قفزة في استثمار الشركات، نسبة إلى الأرباح المُستبقاة. لا يبدو أن أياً من هذين الأمرين وشيك الحدوث، على الرغم من أن الثاني يبدو أكثر ترجيحاً من الأول. مصدر القلق هو أن السبيل الوحيدة لموازنة الاقتصاد ستكون عبر فقاعات جديدة كبيرة.في هذه الحالة لن يكون ذلك خطأ مجلس الاحتياطي الفدرالي، بل هو خطأ السمات الهيكلية للاقتصاد المحلي والعالمي التي شكَّلت مبالغ الفائض السابقة على الأزمة، وأعاقت الانتعاش وهددت استدامة النمو في المستقبل.بصورة عامة، تصرّف الاحتياطي الفدرالي بسلامة في محاولته الأخذ بيد الاقتصاد الأميركي والعالمي خلال الأزمة. وهو يستحق الثناء. لكن استمرار الاختلالات العالمية والفائض الهائل في قطاع الشركات، سيجتمعان ليجعلا من الصعب تحقيق انتعاش اقتصادي قوي ومستدام.لا يستطيع البنك المركزي إصلاح المشاكل التي من هذا القبيل، إنه يستطيع أن يفعل ما في وسعه، وفي الولايات المتحدة على الأقل، فعل ذلك.* فايننشال تايمز