كم هو رائع أن تكتب المرأة القصيدة وتقفز من البرواز إلى الحياة، ذلك البرواز الذي يكرّسها موحية للرّجل الشاعر. وكم هو رائع أن يكون الرّجل مطلاًّ من نافذة الوحي على امرأة تحاول تسييله في حبر قلمها، تحاول أسره في قطيع حروف وتحت سقف من المعاني يبدأ ولا ينتهي.

Ad

من القصيدة الأولى «ليست القبلة» يحضر الرّجل الذي لا يحبّ إلاّ بقلب ليس بريئاً من السكّين وإن يكن طاعناً في الحبّ: «مع ذلك حنون حتّى القسوة / وفتنتك مضرّجة، لكنّي / لا أعرف كيف أدخلك / بدون كلمة السرّ». إذاً، إنّ الرجل موجود وهو غائب في وجوده لأنّ مفتاحه تخبّئه كلمة السرّ في صدرها، وبين مدّ الحضور وجزر الغياب أمام الباب الموصد تتحوّل القبلة خفقة قاتلة لا تترك خلفها أكثر ممّا يتركه الطوفان بعده: «ليست القبلة / أخشى أنّها الخفقة القاتلة / تبدّدنا خلفها».

    وكثيراً ما تلوذ جابر بالمطر الدائم الهطول في نصوصها، وكثيراً ما تكون درب الليل والظلام قريبة إلى قلمها: «الليل ردهات / غابة مطريّة»، وكثيراً ما يحلو لها العبث بزبد المعاني المتعارضة كإرساء حسن الجواربين القتل والحرير: «السماء المفتوحة إصابة / قاتلة / تتقن / صوت / الحرير»، وخلف ستار التعارض تنمو مأساة وجرائم بيضاء يرتكبها الحنين: «أحدهم أيقظ اسمك / وكما هي تحترق غابة / فاح دخان / عسليّ».

    ويبدو لافتاً، في بعض النصوص، ميل جابر إلى شيء من الطرافة والنّزق اللذين لا ينسجمان مع نَفَس القصيدة كأن تقول: «أيّها الرجل أمطارك لم تهطل / فوق شتلة البطاطا / فلماذا يا «فهيم» / زرعتها أصلاً؟» وبعد بضع جمل تقول: «... الرياح البيضاء هديّة / من ملاك عجوز». فشتّان بين شتلة البطاطا والفهيم وبين الرياح البيضاء والملاك العجوز. فنحن في المشهد الأوّل أمام سخرية تليق بمسرح أقرب ما يكون إلى مسرح زياد الرحباني، بينما نحن في المشهد الثاني أمام رمزيّة يسكنها الإيحاء، رمزيّة تنضح بالشّعر، تقول ولا تقول، تدلّ ولا توصِل...

    وعلى امتداد نصوصها تواصل جابر تأبيد الرّجل في لحظات عابرة، وتمضي إليه متقمّصة «ليلى» التي تلهو بناب الذئب وتنتصر على الحكاية، وعلى كلّ هزيمة في آخر الحكاية؛ «ما إن لاح ذلك الذئب، تقدّمت ليلى إليه بعلوّ قصّة قصيرة، ونزعت ناباً من فكّه / وملّست براحتها على فروه». وفي هذه الرحلة الطويلة، تبدو الحاجة ماسّة إلى قبر عظيم غير مخصّص إلاّ للأسرار الكبيرة: «ليست حفرة ما أحتاجه للنحيب / أريد قبراً واسعاً لأطمر السرّ». وإذا بجابر تصل إلى غابتها المنشودة، الغابة الكائنة في أمكنة ما من جغرافية الجسد: «في الغابة وجدت / قبلة متروكة، الرضاب لمّا يزل يرشح ولم / أشفق على فمي». وتنجح داخلة الغابة في مدّ الإيقاع الجنسي على أجساد مفرداتها بعيداً من التكلّف والابتذال. فالجسد عندها من ثوابت الوجود الإنساني وكأنّه هو الذي يقيم في النّفس لا العكس: «فكرتي وفكرتك / بارتفاع نهد فتيّ / داخل عظامك صمغ كثير، / في غيابك صمغ كثير».

بوح

    وتتجلّى أعراس الجسد في نصّ «ثمّة من غرس شيئاً هنا»، فالشاعرة ترتدي عراءها لأنّ لمعاناً ما في جسدها هو لرجل واحد لا غير: «أتعرّى / وتستطيع أن تخمّن / ما يلتمع لأجلك»، وتستمرّ في بوحها الجسديّ برمزيّة تحتضن الإيحاء الجنسي: «درفتان كرمشين / يفتحان ويغلقان»، ويصير هذا الإيحاء على كثير من المباشرة: «تكتبين عن أحوال الطقس / كأنّما ثغر ساقيك / لا يدلق ماءه»... ولا شكّ في أنّ جابر هي ذات قلم يعتمر جسدها بلا تردّد، وذات شجاعة في أن تقول ما يقتات من خاطر شاعرات ونساء كثيرات ولا يقلنه، كأنّه المحرّم، أو بمعنى آخر كأنّ الجسد في المرأة لا يزال اتّهاماً وخطيئة دائمة الاحتمال... ودائماً برمزيّتها الخاصّة تتابع جابر إعلان الجسد ورفع راياته: «إصبع خضّ ثغراً / مركباً أو شارة / قليلاً يدخل في الأنفاس الرطبة / يلوّن العشب، يندّي الحيوان العصبيّ»... إنّ مثل هذه اللغة الشعريّة تستحقّ التوقّف عندها ليس بالمعنى الجماليّ فقط، إنّما بالمعنى الإنساني والوجودي أيضاً. ففي قصيدة «ثمّة من غرس شيئاً هنا» امرأة تقول المرأة التي فيها، تقولها كلّها، وتعلنها في شرق شهريار الذي لا يزال كثيراً عندنا، وهي حين تكتب تكتب لتسكب ماء الطمأنينة والسلام والوفاء لأنثى تستوطنها وترتاح في أعماق أعماقها...

شرفات

    وتعرف جابر كيف تستثمر المكان وتتعامل معه كوجود فاعل على المستوى النفسي لا مجرّد دمية للنظر. ونصّ «نيويورك» يظهرها مزروعة في لحم مدينة ترتاح مشاهدها على شرفات خيال مزيّف مثقل بالخصوبة الشعريّة: مَن من المدن أكثر تسامحاً من نيويورك / من أكثر شاعريّة»، وتشهر ألوانها دليلاً للعاطفة فيقودها إلى تطرّفها بلا تردّد: «إنّ شيئاً من اللون / يقوّي العاطفة في نيويورك / والأحمر / لا يمكن الاستغناء عنه»... نيويورك امرأة المدن المتناقضة، فالسرور ينام فيها على زند الكآبة، لا لشيء إنّما لأنّ جابر تقيّم المدن تحت ضغط الحبّ ووطأته وتأثيره، لذلك لا بدّ للمكان من أن يتقاسم الشعور مع زائره، ولو أنّ للحبّ أن يلبّي الشاعرة لما كانت نيويورك شاشة رماديّة رماديّها لا يرجع إلى الأبيض ولا يخطو نحو الأسود: «تعرف نيويورك من شاشتها الرماديّة / من حدقاتها الفارغة / في الهواء المراوغ». وغريب كيف يحضر القتل في الأمكنة من السماء نزولاً إلى الأرض أو العكس، فالسماء مفتوحة فوهة بندقيّة: «السماء المفتوحة إصابة قاتلة»، ونيويورك طلقة في الرأس لا قبلها ضحك ولا بعدها بكاء: «نيويورك لا تضحك ولا تبكي / مجرّد ثغرة في أعلى الرأس / مع أن لا أحد / ضغط على الزناد».

    أمّا على مستوى الأداء التّعبيري فجابر، حين تريد، تؤدّي الصورة الإيحائيّة وتنظّف لغتها الشعريّة من الهدر، كأن تقول: «أصابعي سمعت / كم قويّ صوت ألمك»، أو «حنان مرتبك في قمصاننا»، أو «أتيتَ عندما أطفأوا المصابيح / هذا ما فتن العتمة»... وهي حين تريد أيضاً تحرّر لغتها من الشّعريّة أحياناً وتترك الكلمات تسير وراء بعضها البعض بعفويّة الحديث على شرفة بين صديقين، فيغيب الإيحاء، ويتوارى الرّمز، ويصادر الوضوح المحتاج إلى امتلاء مساحة المشهد: «كتبتُ في البيت شيئاً من يوميّاتي / وغسلت قميصي الأبيض / ثمّ تأمّلت طويلاً جدّاً / صورتك التي أحضرتَها معي من بيروت»...

    في «عروض الحديقة» كتبت عناية جابر فصلاً من حكايتها مع الحبّ بعيداً من المشاعر المستعارة وبحرّيّة عصفور يغمس منقاره في منقار عصفورة في أعلى الشجرة...هناك، في آخر الغابة.