لن أخوضها (2)
ذكرت في الجزء الأول من المقال أن الجلوس على الكرسي الأخضر ليس السبيل الأوحد للإصلاح، كما يعتقد البعض. فبعد نصف قرن من الممارسة الدستورية مازلنا نتعثر وندور في حلقة مفرغة، فضلاً عن الجمود العام في التنمية والتطوير، والانحدار المستمر في كفاءة وجودة الخدمات العامة، وتردي أخلاقيات العمل والتعامل على كل الصُّعُد، وكل ذلك يدفعنا جميعاً إلى مراجعة آليات العمل والعطاء والتغيير لنجني تغيراً إيجابياً أسرع وبشكل أكفأ.نتفق جميعاً أن هنالك خللاً، وإصلاحه ممكن إذا توافرت الإرادة لدى المشتغلين فيه والبيئة للتوافق فيما بينهم. لكن هل لدينا البيئة المناسبة للإنجاز على الصعيد السياسي؟
نحن بتنا نعمل في بيئة سياسية عقيمة عمادها الإقصاء والتخوين، لا التوافق والتعاون. بيئة حرّف فيها مفهوم العمل السياسي لتحل الواسطة والخدمات الشخصية محل التشريع للأمة والمستقبل، ويقيم النائب بعدد تصريحاته الصحافية وليس القوانين التي عمل على إقرارها في اللجان. بيئة تُكسِب من يشغل الناس بتوافه الأمور إعجابهم وتعاقب من ينشغل بحل مشاكلهم. بيئة تتطلب المعارضة لغرض المعارضة وتنعت من يحكم المبدأ بعد سماع وجهات النظر المختلفة بالخنوع والتردد. بيئة صاخبة بالشعارات والصوت العالي، لا مكان فيها للعقل والموضوعية. بيئة تسمح للفاسدين بالتسلق إلى أعلى المراتب وللمنافقين بقيادة المعارك. بيئة ساهم في خلقها جميع أطرافها، بدءاً من سلطة فاقدة للرؤية والقيادة والمسؤولية تجاه مستقبل البلد وبقائه، وحكومة فاقدة للاستقلالية والتجانس والقدرة على الإدارة، وقوى سياسية عاجزة عن تقديم مشروع حقيقي للإصلاح، تقتات على أخطاء السلطة وتتعامل بردود الأفعال ولا تخلق المبادرات الإيجابية، وبرلمان بلا أولويات تعكس مشاكل البلد، ودستور يتغنى به منتهكوه قبل غيرهم.لقد جاهدت السلطة على مدى نصف قرن لوأد الدستور، ومازالت، ولكن بأدوات جديدة، إما بموالاة استباحت الدستور للتغطية على تجاوزات السلطة وإخفاقاتها، أو معارضة لم تفوت أول فرصة للانقضاض على الحريات وحقوق الأفراد وهي ذات المبادئ التي قام عليها الدستور، وبهذا وجدت السلطة أخيراً من يخوض حربها ضد الدستور بالنيابة عنها وبغطاء شعبي، وذلك لا يقل خطورة عن كل ممارساتها السابقة.إنها بيئة يستعصي فيها العمل والإنجاز، والناخبون يستحقون من نوابهم أفضل من تصريحات وندوات وتمثيليات وجلسات بلا نصاب. ولكن ما سبق لا يعني التخلي عن التفاؤل والتفكير في المستقبل، فبلدنا جميل يمتلك مقومات النهوض من جديد، ويحمل الكويتيون الخير في قلوبهم لإنقاذ وطنهم رغم محاولات تقسيمهم في تناقضات اجتماعية وسياسية. وإذا كانت إمكانية الانجاز من خلال البرلمان مستعصية فهي بلا شك متاحة ومطلوبة في ميادين أخرى، وعلى رأسها ميدان التعليم.