على درب تشافيز
رغم النمو الذي شهده القطاع غير النفطي في فنزويلا، فإن النفط لا يزال يقدم الأغلبية العظمى من مكاسبها من الدولار، وعلى مدى العقد الماضي، كان ازدهار أسعار النفط سبباً في تحفيز التوسع الاقتصادي، مع توقف قصير في أعقاب الأزمة المالية في عام 2008.
ما زلت أتذكر على وجه الدقة تاريخ زيارتي لفنزويلا. كنت مستلقياً تحت أشعة الشمس بجانب حوض السباحة على سطح فندق هيلتون كاراكاس، جاءني النادل وتمتم بشيء عن هجوم تفجيري في نيويورك، فهرعت إلى غرفتي لأشاهد على شاشة التلفاز مقطعاً إخبارياً يعاد عرضه بلا توقف لطائرتين تصطدمان بمركز التجارة العالمي.كنت في فنزويلا في الحادي عشر من سبتمبر 2001، لحضور مؤتمر حول "الطريق الثالث"، كان هوغو تشافيز مهتماً للغاية بالطريق الثالث- أسلوب عمل وسط بين الرأسمالية على الطريقة الأميركية واشتراكية الدولة- كحال توني بلير قبل بضع سنوات. ولقد شرف تشافيز اللقاء بحضوره شخصياً لبرهة وجيزة، مرتدياً زياً عسكرياً عادياً، حيث تسلم مجلداً ضخماً لنصوص ماركسية من أستاذ مسن.
وقبل ذلك بيوم واحد، كنت أتناول الغداء في البنك المركزي الفنزويلي، وكنت أجلس إلى جوار نائب المحافظ غاستون بارا لوزاردو، وقد أخبرني أن كل أهل فنزويلا يعتقدون أنهم "ولِدوا وتحت ذراع كل منهم رغيف"- بمعنى أنهم لديهم الحق في الحصول على حصة من عائدات البلاد من النفط، ونتيجة لهذا فإن لا أحد منهم يعمل بجدية، وأوضح رجل الاقتصاد أورلاندو أوتشوا أن النزعة الريعية هيمنت على اقتصاد فنزويلا، وتحارب طائفة حكم القِلة من أجل الحفاظ على سيطرتها على عائدات النفط، ويبذل الشعبويون الوعود بإعادة توزيعها، وكلا الفريقين يسرق لنفسه أكبر قدر ممكن من هذه العائدات، ولا أحد يهتم بخلق الثروة.آنذاك، كتبت في دفتر يومياتي "لا أحد يعتقد أن تشافيز سيكمل ولايته الرئاسية، فهم يعتبرونه مهرجاً ضاراً وليس ثورياً خطيراً". والواقع أن محاولة انقلاب دبرت ضده في العام التالي، ولكنه نجا من تلك المحاولة واستمر في حكمه إلى أن فاز بفترة ولاية ثانية، وثالثة، ثم رابعة.إن الجدال الدائر حول إرث تشافيز السياسي بعد وفاته أشبه بإعادة تمثيل للمعارك الأيديولوجية التي دارت رحاها أثناء حياته. أما المعركة حول إرثه الاقتصادي فهي أكثر وضوحاً ومباشرة: فهي تتعلق بالكيفية التي أدار بها ثروة فنزويلا النفطية. إن فنزويلا تمتلك أضخم الاحتياطيات من النفط على مستوى العالم، وكانت استراتيجية تشافيز الاقتصادية تعتمد على تسخير هذه الثروة من أجل معالجة المشاكل الاجتماعية التي تعانيها بلاده. وغلب على سنوات حكمه الأولى نضاله من أجل فرض السيطرة على شركة النفط المملوكة للدولة "بي دي في إس إيه".بعد نجاحه في تأكيد سيطرته السياسية في عام 2003، عمل تشافيز على فصل 40% من موظفي شركة النفط، وكان عداؤه الواضح للاعبين الأجانب في الصناعة (قام بمصادرة ممتلكات العديد من شركات النفط الأميركية في عام 2007) سبباً في الحد من الاستثمار وتقييد الإنتاج. لقد حول تشافيز شركة النفط إلى إقطاعية شخصية واستخدمها كبقرة حلوب؛ وكان الكثير من برامجه الاجتماعية يتم تمويله بشكل مباشر من ميزانية الشركة.ومع افتقارها إلى النقد، اضطرت الشركة إلى خفض الإنفاق على الصيانة والتوسع، الأمر الذي أدى إلى زيادة عدد الحوادث وتراجع الإنتاج. ويرجع الفضل جزئياً إلى سياسات تشافيز في أن فنزويلا لا تزال لاعباً صغيراً في سوق النفط العالمية، حيث لا تتجاوز حصتها في الإنتاج العالمي 3%. وهي لهذا السبب عُرضة لتقلب الأسعار، ومضطرة إلى السير على خطى المملكة العربية السعودية وغيرها من كبار منتجي النفط في منظمة "أوبك".ورغم النمو الذي شهده القطاع غير النفطي في فنزويلا، فإن النفط لا يزال يقدم الأغلبية العظمى من مكاسبها من الدولار، وعلى مدى العقد الماضي، كان ازدهار أسعار النفط سبباً في تحفيز التوسع الاقتصادي، مع توقف قصير في أعقاب الأزمة المالية في عام 2008. ورغم هذا فإن الأداء المتعثر في مجال تصدير النفط والارتفاع الحاد في الواردات المرتبطة بالبنية الأساسية، فضلاً عن النمو الهائل في الإنفاق العام، كل هذا كان سبباً في تغذية مستويات عالية من التضخم، حيث يتجاوز المعدل السنوي الآن 20%.وأدى هذا إلى فرض ضغوط هائلة على عملة فنزويلا المربوطة بالدولار (البوليفار). وفي أوائل عام 2013، اضطرت الحكومة إلى إعلان خفض القيمة بنسبة 32%، وتوقفت عن إصدار سندات الدين الحكومية بالدولار. كان إصدار السندات الدولارية مصدراً رئيسياً للتلاعب، حيث يشتري المضاربون الديون الدولارية بسعر الصرف الرسمي، ثم يبيعونها في مقابل الدولارات، التي يحولونها إلى العملة الوطنية بسعر أعلى كثيراً في السوق السوداء. وفي ظل القدرة المحدودة على الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية، تحول تشافيز إلى الصين طلباً لقروض مدعومة بعقود بيع للنفط. ورغم أن القروض من بنك التنمية الصيني كانت بأسعار فائدة أعلى من آليات الإقراض الغربية التقليدية، فإنها أيضاً تأتي في ظل قيود أقل على السياسات، الأمر الذي سمح لفنزويلا بالهروب من غضب حاملي السندات، على الأقل حتى الآن.ولكن أين ذهبت الثروة النفطية؟ كانت برامج تشافيز الاجتماعية المستفيد الأكبر من هذه الثروة، فقد تعود على التجوال بين القرى وتحرير الشيكات للفلاحين الفقراء. وتشير أكثر البيانات جدارة بالثقة إلى أنه كان ناجحاً في الحد من التفاوت بين الناس؛ فأثناء حكمه هبط معامل جيني لفنزويلا- وهو مقياس من مئة نقطة يقيس التفاوت في الدخول- من 50 نقطة إلى 39 نقطة، وهو أكبر انخفاض في مستويات التفاوت في أميركا اللاتينية على الإطلاق. كما نجح تشافيز في خفض الفقر إلى النصف من 50% إلى نحو 25%، في حين انخفض الفقر المدقع بمقدار الثلثين.لا أحد يستطيع أن يجزم بأن كل سنتيمو أنفق على الوجه الصحيح تماماً، فقد تفشت المحسوبية وتضاعف معدل القتل إلى ثلاثة أمثاله، ويرجع هذا جزئياً إلى الفساد في الجهاز القضائي والشرطة. وكانت دبلوماسية النفط التي انتهجها تشافيز تتخذ أحياناً أشكالاً غريبة، مثل توفير السفر الرخيص بالحافلات للزوار من أهل لندن إرضاءً لعمدة لندن اليساري كين ليفنغستون.ورغم إسرافه وأسلوبه الاستبدادي، فقد أحبته الجماهير، وكان محبوه يؤمنون تماماً بأنه يقف في صفهم، وصوتوا بأغلبية ساحقة لمصلحته إلى النهاية، حتى عندما علموا أنه يحتضر بعد أن تمكن السرطان منه، ومن المؤكد أن تشافيز سيدخل هيكل أبطال أميركا اللاتينية.ولكن ماذا عن الطريق الثالث؟ في أعقاب انهيار الشيوعية، بدا مزيج تشافيز الذي جمع بين معاداة الولايات المتحدة وتنشيط الدولة كحالة غريبة، إذ لم يكن هناك بديل للأسواق الحرة وإجماع الليبراليين الجدد في واشنطن، أو هكذا بدت الحال.ولكن صعود الصين، وانحدار الولايات المتحدة نسبياً، وازدهار أسعار السلع الأساسية لفترة طويلة، وانهيار الغرب مالياً في عام 2008، كل هذا كان من الأسباب التي سمحت بخلق مساحة للتجارب السياسية والاقتصادية. والواقع أن تشافيز انتهز الفرصة، وقد تثبت التشافيزية أنها ظاهرة كبيرة تتجاوز حدود منشئها في أميركا اللاتينية.* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي في جامعة وارويك.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»