قال الراوي: {كان عمر العيار في تلك الليلة يخشى من أن الأعجام يبدأون الهجوم على البلد، فأسرع إلى عياريه وجاء بهم إلى الجهة المقيم بها زوبين الغدار، وفرق عليهم النبال الكثيرة ودعا أيضاً برجال أخيه الثمانمئة وأوصاهم بأن كل واحد منهم يأخذ قوساً ونبالاً، وعيَّن لهم مكاناً حصيناً، وقال لهم اعلموا أننا لا نقاتل العجم الآن إلا بعد أن يأمر أخي حمزة ويأتي الزمان الموافق للقتال. غير أننا إذا هجموا علينا ندافع عن المدينة ولا نقبل بأن تصاب المدينة المطهرة بسوء من الكافرين والمعتدين. ومتى رأيتم الأعداء وقد هجموا علينا فصوبوا نبالكم عليهم وأرموهم بها فهي لا ريب تصيب مقاتلهم ويعمي الله بصائرهم ففعلوا كما أمرهم}.

Ad

وحين جاء الصباح رأوا جيوش زوبين تتقدم إلى ناحية المدينة وباقي الجيوش مستكينة في خيامها فأسرع عمر إلى رجاله وأوصاهم بالحفاظ التام على المدينة، وهو في مقدمهم وهم ينتظرونه أن يرمي نبله ليتبعوه. وبقي صابراً على زوبين ورجاله حتى قربوا جداً من المدينة وهم بأمان من أفعال عمر العيار، وكل ما يشغلهم ألا يباشر العرب القتال. وفيما هم يتقدمون على مثل ذلك لم يشعروا إلا وعمر العيار قد صاح من الأعالي وصوَّب سهمه وأطلقه عليهم، وفي تلك الدقيقة انطلق من جماعة العيارين ورجال حمزة نحو ألف سهم ثم تكرر ذلك وكلها تقع بين العجم وقد أخذوا بغتة واضطربوا.

وظن العجم أن العرب بأجمعهم يطلقون النبال فارتبكوا من الخوف يميناً وشمالاً، وقد عميت أبصارهم وتشتتت أفكارهم وأنزل الله عليهم البلاء، ووقع بمقتل رجل من الأعجام فأرداه وظل والعرب يطلقون النبال من دون أي كلل، وعمر العيار يتطاير من حولهم من مكان إلى مكان لا يدع أحداً يرجع إلى الوراء كأنه عزرائيل قابض الأرواح أو إسرافيل ينفخ بالبوق لتفريق شمل الأعداء. وما برح العرب على مثل هذا العمل حتى أهلكوا نحو عشرة آلاف من عساكر زوبين وسار الباقون في الفلا خوفاً من الهلاك والدمار.

وكان من جملة الهاربين زوبين الغدار وقد تكدر مما جرى، ولم يصدق أنه خلص من ساحة الهلاك وبعدما أبعد عن المدينة وأمن على نفسه أمر بأن تجتمع إليه رجاله وأن يعودوا إلى خيامهم وهو غائب العقل والصواب على ما حل به من الويل والتأخير ونزل في صيوانه حزيناً. وفيما هو على مثل ذلك وإذا {ببختك} وكسرى وقد وصلا إليه لأنهما كانا قد رأيا ما حل برجال زوبين ونظرا تبديد شملهم. وعند وصولهما إليه سلما عليه. وقال له بختك إن العرب على ما يبدو غير مستعدين للقتال وقد استعملوا هذه الحيلة أي قاتلوا بالسهام دون الاقتراب منا، وما ذلك إلا عن عجز وخوف.

 قال كسرى: {كنت أظن إن هذا فعل العرب بأجمعهم مع أني تأكدت بعد رجوعي ونظري من بعد أنه فعل نحو ألف نفس منهم}، فرد بختك إن هذا من دون شك فعل عمر العيار وقد دبَّر هذا التدبير ليوهمنا أن العرب بأجمعهم يفعلون ذلك مع أنهم معتمدون على الحصار والبقاء داخل المدينة. تابع كسرى: {أريد وأحتم بإرادتي ألا نباشر حرباً مع العرب، بل من الواجب واللازم أن نسد عليهم كل المنافذ ونمنع كل الطرقات كي لا تأتيهم نجدة من أي مكان ولا يصل إليهم أحد بمؤن وذخائر. ومتى فرغ طعامهم إذ ذاك الموت الأحمر يخصب من أسنة رماحنا وسيوف رجالنا}. فأجاب بختك: {هذا هو الصواب ونحن غرباء في هذه البلاد فإذا أضعفت قوتنا أو فقد من جيشنا قسم فلا نقدر أن نعوَّضه ومن الرأي الحسن أن نحافظ على دم رجالنا وأبطالنا إلى أن يتضايق العرب ويفعل بهم الجوع}.

ثم اتفق كسرى وبختك وزوبين أن يجتهدوا في الحصار، وأقام العرب ينتظرون هجومهم مدة أيام، فلم يروا منهم هجوماً فعلموا أنهم عاملون على حصرهم. وكان حمزة قد سُر من عمل عمر العيار وشكره الشكر العظيم، وكذلك فعل باقي العرب، وما من أحد منهم إلا وهبه شيئاً من المال ليفرقه على جماعته العيارين. ففي ذات اليوم دعا حمزة أخاه عمر وقال له: {أريدك أن تذهب إلى {بزرجمهر} وتسأله عن القتال، أهل يوافق في هذه الأيام أم لا لأننا لبثنا على مثل هذه الحال عدة أيام لقينا البلاء بحيث يكون قد فقد من عندنا المؤن ولم يبق لنا ما نأكله وما يكفي لهذه الجموع المتجمعة عندنا، فنلتزم أن نأكل من المال الذي حصلنا عليه من جمع {الأخرجة} وربما فرغ. لا أريد أمد إليه يدي مع أن صدري قد ضاق من التقاعد والأعداء محدقين بنا، وهذا عار لا أقبله عليَّ}. فقال عمر: {سأعود إليك بالأمر من {بزرجمهر} فإذا أشار بالقتال فعلنا وإذا أمرنا بالتربص فعلنا أيضاً لأن لا نجاح لنا إلا بإذنه وعنايته وخبرته}. وصبر عمر إلى أن أسود الليل، فتزيا بزي الأعجام وخرج على تلك الحالة حتى وصل إلى صيوان {بزرجمهر} فدخل عليه وقبل يديه وسأله عن حمزة، فقال هو {بخير وعافية وقد رجع كما كان وهو على الدوام يطلب القتال وأنا أمنعه إلى حين صدور أمرك به، حيث أعرف ويعرف هو أيضاًَ أنك محب للعرب ولا سيما الأمير إبراهيم وقد حذَّرنا قبل هذه الأيام من النحوس فلم ننتبه إلى ذلك حتى لقينا ما لقينا من نتائج مخالفتنا، فهل زالت هذه الأيام أم لا تزال باقية؟}. هنا قال {بزرجمهر} لعمر العيار: {بلغ سلامي لأخيك حمزة وقل له أن يصبر عن الحرب والقتال مدة أيام أخرى إلى أن يأتيه الفرج من عالم الغيب}. فسأله عمر: {ومن أين أن يأتينا الفرج ومن أي ناحية؟}. فرد {بزرجمهر}: {على الأمير حمزة أسفار وأهوال. لا بد من أن يرسل الله من يبدد شمل العجم ويكون على وجه نجاحكم وهو لا أعرفه ولا أعرف اسمه، لكن أعرف أنه ليس من الأنس بل من الجان}. فقال عمر: {الأمير يخاف من التطويل فتفرغ منا المؤن والمأكل وليس عندنا ما يكفينا إلى زمان طويل مع أن الأعجام طرقهم مفتوحة فيحصلون على الزاد من أي ناحية كانت}. فرد {بزرجمهر}: {لا يمكن أن يحصلوا على الزاد من هذه البلاد غير أن ما معنا يكفي لأيام قليلة وقد أعد كسرى كثيراً من المؤن والأطعمة تكفينا لسنوات عدة وسلمها لعبيد زوبين الغدار وهم جاؤوا بها وبعد يوم أو يومين يكونون هنا}. فتابع عمر: {لا بد لي من سلب هذه الأطعمة والاستيلاء عليها، وسوف ترى ما أفعل بها فهي غنيمة باردة}. ثم عاد إلى أخيه حمزة وأخبره بما سمعه من {بزرجمهر} وأنه لا يأذن لهم بالقتال في تلك الأيام، وصبر الأمير حمزة إلى حين يأتي الله بأيام السعود. أما عمر فإنه دعا بعياريه وأوصاهم أن يكونوا على استعداد: {أريد منكم أن تكونوا على حذر واستعداد فإني أريد أن أذهب بكم هذه الليلة إلى غنيمة عظيمة تنفعنا وتضر بأعدائنا}. ثم ارتدى ملابس عبيد كسرى ووضع على رأسه قبعة مدورة وعلق بها بعض أجراس وسار بين الأعجام ولا أحد منهم يعي إليه وكل من رأه لا يظن إلا أنه عجمي حتى قطع جيوشهم وسار مبعداً عنهم، إلى أن كان النهار فدخل في واد متسع الجنبات كثير الفسحات، وإذا بالأحمال محملة وسائرة إلى جهته فتقدم نحوهم وهو فرحان يصفق بيديه ويغني من الفرح ويرقص وما زال حتى اقترب من العبيد ووقف أمام كبيرهم فقال له: {من أنت؟ وقد يظهر لي أنك من الأعجام}. قال: {نعم أنا عبيد كسرى وقد بعثني لأكتشف أخباركم وأعرف هل أنتم بعيدون عنهم فسرت بجهد عجيب حتى وصلت إلى هنا ولا يخفاك يا ابن الخالة ألا شيء يسرني إلا الاجتماع بأبناء جنسي سود الألوان ولا يطيب العيش إلا معهم وإني أؤكد لك أني فرحت جداً بهذه الخطة حيث يتيسر لي أن أرقص معكم وأصرف ليلة حظ وسرور قبل وصولنا إلى المعسكر}. قال: {بارك الله فيك فإن جنس العبيد يحب بعضه جداً وكلنا أولاد خالة فسر بنا قليلاً حتى إذا صار بيننا وبين معسكرنا ثلاث ساعات نزلنا بالأحمال وصرفنا ليلة من أحسن الليالي نحن وكل العبيد وفي الصباح نكون صحونا فنسير إلى كسرى وزوبين ونسلمهما الأحمال والمؤن}.

وجعل عمر العيار يغني ويرقص ويماشي {أكاك} كبير العبيد، حتى سُرّ منه سروراً عظيماً وأكثر من الضحك لكثرة أعماله السخرية وشغل به العبيد وتركوا الأحمال واجتمعوا إليه. حينئذ، أمر كبير العبيد أن {تنخ} الجمال وتبقى على ظهورها الأحمال حتى يسيروا بعد نصف الليل، فضرب صيوانه ومد الطعام فأكل مع عمر العيار وهو مسرور منه مزيد السرور.

وبعدما فرغ من الطعام قال: {أريد منك يا ابن الخالة أن تأتينا بزق خمر وتأمر كل العبيد والسائقين أن يأتوا إلى هنا لنصرف هذه الليلة على ما يرضيك فيضربون لي بالطنبورات ويصفقون بأياديهم وأنا أرقص لك}، فقال: {عمر مرحباً بك سأفعل كل ما تريده}، ثم أمر أن يؤتى بزق خمر ويجتمع العبيد جميعاً إلى عمر فصفهم دائرة الواحد مقابل الآخر وفي صدرهم كبيرهم وأخذ زق الخمر فوضعه في الوسط وقال عليكم في هذه الليلة أن تضحكوا من أعمالي وتصفقوا من فرحكم وعليَّ أن أسقيكم من الخمر وأرقص لكم وأسركم وسوف ترون. راح يرقص ويقلب بالهواء ويمشي على يديه حتى كاد العبيد أن يهلكوا ضحكاً. ثم أخذ الطاسة وراح يسقيهم وقد وضع كمية من مادة مخدرة في الزق فشربوا دوراً ثم أعاد عليهم ثانياً وثالثاً ورجع إلى عمله بعد نصف ساعة ثم سقاهم حتى اقتربوا من الثمالة، هنا قال لهم: {هيا بنا يا أولاد الخالة نرقص بأجمعنا رقصة الدبكة فبعد هذه الساعة ما عدنا نجتمع فهبوا بأجمعهم. أخذوا أيادي بعضهم وبدأوا يرقصون ويضربون الأرض بأرجلهم ويهتزون ويميلون يميناً وشمالاً حتى تمكن البنج منهم جيداً. ومن ثم أخذوا في الوقوع على الأرض واحداً بعد واحد حتى وقع الجميع نياماً فعرف أنهم لا يقومون إلا بعد 24 ساعة أو أكثر.

ولم يقبل أن يضيع الفرصة فأسرع عائداً حتى دخل بين الأعجام ومن ثم جاء المدينة فوجد العيارين بانتظاره فدعاهم إليه وجاء إلى الفرسان وحكى لهم ما كان من أمر العبيد والمؤن التي كانت معهم وقال لهم إن جميعها صارت بأيدينا ولم يبق علينا إلا إدخالها إلى البلد: {أريد منكم بعد أربع ساعات أي قبل الصباح بساعات بأن تصيحوا وتفاجئوا الأعداء فيميلون نحوكم وهم يظنوكم كثيرين واعملوا فيهم السيف ولا تتفرقوا وأنا أذهب الآن برجالي وجماعة من العبيد تحت الليل الدامس فأمر من ظهر أكمة أعرفها وأنساب معهم ولا أحد يرانا}.

قال عمر: {فإذا رأيتكم وأنتم تقيمون الحرب وتفاجئون الأعداء مررت بالجمال بحيلتنا، لا سيما وقد أخذوا بغتة والليل شديد الظلام فلا يرون منه ما تحته، وفي الحال ذهب نحو ثلاثمئة عبد أنسابوا من خلفه واحداً بعد واحد دون أن يبدوا حركة أو صوتاً ولما صار في الخارج عرج عن الطريق وتسلق أكمة قريبة من الحفر وفعل رجاله وباقي العبيد كفعله وجعلوا يتقدمون شيئاً فشيئاً واحداً خلف واحد حتى قطعوا الأعجام ولم يرهم أو يشعر بهم واحد منهم. ومن ثم أخذ عمر خنجره وتقدم من العبيد مع عياريه فأوقعوا بهم وأماتوهم بمدة نصف ساعة.

إلى الحلقة الخامسة

لم يترك عمر العيار أحداً حياً وبعد ذلك أخذ يفرقهم ويرتبهم على الجمال وصف الجمال خلف بعضها وسلم أزمتها إلى العبيد ووضع في كل ثلاثمئة جمل عياراً من عياريه مسلحاً وأوصاه أن يكون عمله على الدوام الانتقال في تلك الفسحة، حتى إذا وجد من يعارض أو يدنو من الجمال نحره بضربة من خنجره. وتقدم كأنه الريح في ساعة الانتقال، يكاد لا يظهر للعيان وأقام ينتظر هجوم رجاله على {الأعجام} من الجهة التي أوصاهم بالهجوم منها ليمر بسرعة البرق الخاطف.

وفي تلك الساعة خرج {اندهوق بن سعدون} و{المعتدي} حامي السواحل و{قاهر الخيل} و{بشير} و{مباشر} و}معقل البهلوان} و{أصفران الدربندي} والأمير {عقيل} والثمانمئة من رجال حمزة، ولما قربوا من معسكر الأعجام دخلوا بينهم وقد تفرقوا على جهات عدة واتفقوا أن يجتمعوا إلى جهة واحدة وبدأوا ضرب السيف فيهم وهم نيام، وبدأوا في تقليب الخيام ودوس الرجال. اضطرب جيش الأعداء من تلك الجهة وظنوا أن الأرض قد انطبقت عليهم من كل الجهات، فخرجوا هائمين على وجوهههم ومن قدر منهم على حمل السلام لم يتمكن أن يعرف من أي ناحية كبستهم الأعداء فطلب العزلة ينتظر قدوم النهار. وبهذا سهل لعمر العيار أن يمر بالجمال وحالما صار بين الأعجام لقى الأمير اندهوق والفرسان تتجمع إليه تطلب منه أن يسير على جانب الجمال ذهاباً وإياباً مع باقي الفرسان ولا يدع أحداً من الأعداء يعرف بهم أو يقرب من الجمال ففعل.

وكان عمر العيار كأنه البرق الخاطف من ناحية إلى ناحية والعبيد والعيارون تسوق بالنوق والأحمال عليها وهي سائرة من دون معارض، والقتال واقع عند جانبها وكلما صادفوا أحداً في طريقهم كان جزاؤه الإعدام والهلاك. أما عمر العيار فكان يحرسها من بدايتها إلى نهايتها ويرعاها من خناجر عياريه أو سيوف الفرسان. وبعد نصف ساعة بدأت الجمال تدخل المدينة يتبع بعضها بعضاً وقد دعا إلى ذلك فرسان من المدينة فتناولوها، ودامت الحال على هذا المنوال مدة ثلاث ساعات حتى دخلت كل الجمال والأحمال ومن ثم دخل خلفها العيارون والفرسان جميعاً وهم مسرورون وفرحون بنجاح أعمالهم وفوزهم وحرمان الأعداء من طعامهم ومؤنهم.

وكان الصباح قد بدأ يتقدم فخرج الأمير حمزة من صيوانه ولاقى عمر فشكره على فعله ومدح من أعماله وأعمال الفرسان وقال الحق يقال إن هذا العمل يصعب على كل عيار وبطل وقد فعلتم بالأعداء فعلاً يؤثر فيهم لأنهم لا تمر أيام قليلة حتى يروا أنفسهم باحتياج شديد إلى الطعام ويشعرون بالمجاعة ونحن بأمان منها لأن هذه الذخائر تكفينا إلى زمان طويل.